الاثنين، 15 أكتوبر 2018

الاجتزاء بين التكسّب والدين


عُرف عن العربية بلاغتها المتقنة وقدرتها على الإيجاز الشديد، الإيجاز لدرجة الحذف بدلالة السياق، وقد أسهمت هذه البلاغة بتأسيس نسق فكري ثقافي شبه ثابت في الذهنية العربية ولم تعد مجرد علم يختص به أهل البلاغة والمعرفة، فقد انداح على المستوى الشعبي وانسحب على مختلف الصعد ضمن استعمالات الواقع المعيش، متخلياً عن بريقه اللغوي، مرتديا لبوس المنفعة والتسلّك البراغماتي، وإذا كان قد حافظ على مسماه البلاغي إيجاز حذف) فقد انتقل إلى مسمى آخر في السلوك الفردي حيث صار الاجتزاء والحذف منهجاً عملياً نفعياً بغض النظر عن أهمية المحذوف وربما بتعمد مباشر للتعمية على المحذوف الذي إن ذُكر أبطل قصد المتكلم ونفى حجته. وهذا سينتج بالضرورة نسقاً أخلاقياً يتخلق به عامة الناس.
وبناء عليه فقد غدا اجتزاء عبارات من نصوص دينية ثم بناء قاعدة أو حكم عليها أمراً اعتيادياً جداً، ولأن المنجز الديني يلامس المشاعر والعواطف الإنسانية فقد وجدت هذه الأحكام طرقها القطعية التي يستسلم لها عامة الناس، بل ساهم عامة الناس بتأصيلها فيما يفيدهم وبالتالي أخذت منحى السلوك اليومي لكثير منهم. وكي لا يبدو الكلام محصوراً في جانبه النظري يمكن أن نضرب على سبيل المثال لا الحصر الحديث النبوي الذي يقول:
"خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام." من هذا المنطلق صار أبو سفيان وكثيرون أمثاله أخياراً ولم يتوقف إلا قلة قليلة جداً عند تكملة الحديث النبوي التي تضع شرطاً على غاية الأهمية لتحقق ذلك الأمر (إذا فقهوا) فمن يتفقه في الدين ينصاع للأوامر وينزجر عن الزواجر وهذان شرطان لتحقق التقوى، ولأنهما شرطان على درجة عالية من صعوبة التحقق في النفوس الضعيفة فقد تمّ التواطؤ شعبياً على تجاهل هذا الاجتزاء ليدخل هذا الشرط ضمن منظومة (الصح الضائع) التي أخلت مكانتها لـمنظومة (الخطأ الشائع) مستفيدة من القاعدة اللغوية عند نحاتنا القدماء الذين أسسوا لمقولة (خطأ شائع أفضل من صح ضائع) وبالقياس أيضاً تعامل الكثير من السوريين في بداية الثورة مع أي انشقاق يحصل على مبدأ (بندقية معنا أفضل من بندقية علينا) ليكتشفوا بعد حين أن الكثير من هذه البنادق كانت عليهم تسللت إلى مفاصل الثورة تحت ستار ديني أشبه بخياركم في الجاهلية.
وبناء على الكثير من هذه الاجتزاءات نتج الكثير من السلوكيات التي ابتدأت بحرف الثورة السورية عن مسارها وانتهت بتكفير الشعب السوري وتمزيقة تحت رايات عديدة جداً تلتقي جميعها تحت راية الكتاب وتفترق جميعها تحت رايات الاختلاف بالتأويل والتفسير والاجتهادات فعندما يبغي أحد الفصائل تمتنع جميعها عن قتاله بحجة أخوة المنهج أما عندما تقتضي الضرورة وتأتي أوامر الداعمين فيصبح عندئذ القتال بناء على فتوى (كي لا تكون فتنة) وهذه الآية من أكثر الآيات استخداماً خارج سياقها، وعبر التاريخ كانت متكأ للكثير من المجرمين ممن أرخوا لحاهم وقاتلوا أبناء دينهم قتالاً استئصالياً، وكي يرفعوا من حمية المقاتلين عبر الإيهام الدلالي تراهم يضيفون آيات أيضاً مجتزأة من سياقها وبإهمال متعمد وواضح للمعنى المركزي ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم) فإذا كان السياق القرآني يشير بوضوح إلى المشركين في صدر الإسلام وتحديداً منهم الذين أخرجوا الرسول ومن آمن معه من مكة، فإنه مع فصائل النصرة وداعش والزنكي وأمثالهم كانوا يقصدون فصائل الجيش الحر بدءاً بجيش ثوار سوريا وانتهاء بأكثر من عشرين فصيلاً غيره، خاصة مع توفر فتوى صريحة من الظواهري بعدم التحالف مع الفصائل العلمانية وفتوى من بعض مشايخ السعودية بعدم التبرع ودعم الفصائل التي لا ترفع راية لا إله إلا الله . أما كيف يكون القتل فقد جاء واضحاً وصريحاً بنص قرآني أيضاً مجتزأ من سياقه (فاضربوا فوق الأعناق) مع أن الخطاب في النص موجه للملائكة الذين ساندوا المسلمين في بدر، إلا أن كتائب الإرهاب القاعدي تتعامل مع هذه الطريقة بالقتل على أنها الطريقة المختارة من الله، وليست كناية عن القتل بالمطلق، وإذا كانت هذه الطريقة صعبة التنفيذ في زمن الرصاص إلا أنها في أحكام الإعدام كانت متبعة في كثير من الحالات.
لقد لعب اجتزاء العبارات الدينية دور المؤسس لسلوكٍ ظاهرهُ دينيٌّ وباطنهُ نفعيٌّ لا علاقة للدين به، إنها التقية بأبشع صورها الاستغلالية النفعية فقد تمت الانسحابات من معظم مدن المناطق المحررة بتبرير ديني وتم تفكيك البنية التحتية للمدن المحررة بتبريرات دينية فاختفت سكك الحديد كما اختفت المحطة الحرارية كما اختفت كل ممتلكات الشعب من المؤسسات العامة. وغدت التجارة بالدين هي الأكثر ربحاً على الإطلاق بين أمراء الحرب خاصة بعد أن تم القضاء على معظم فصائل الجيش الحر بتهم الفساد أو الشرك أو العلمانية.
إزاء هذا الفساد انقسم السوريون إلى مؤيد طامع في حصته من الغنائم، مطمئن إلى أن كل شيء يسير وفق الشرع ووفق ما أمر الله وإلى معارض لا يملك من أمره شيئاً ولا يملك غير الألم تجاه هذا الفساد، ومن حاول التصدي لهذا النوع من التقية في بدايات الثورة كان مصيره إما الاغتيال مع تسجيله في قوافل الشهداء الذين ماتوا بفعل القصف الأسدي، أو الفرار والهجرة بعد أن استشعر ما يُدبّر له. وبذلك غدا هؤلاء الإسلاميون بشرعييهم (أصحاب الدورات الشرعية المجتزأة) وبمشايخهم خيرَ معين للطاغية في القضاء على الجيلين الأول والثاني من شرفاء الثورة، فقد تكفلت النصرة وداعش بالقضاء على من لم يستطع الطاغية بشار قتله أو اعتقاله أو تهجيره.
عبد الرحمن حلاق

ليست هناك تعليقات:

الاستعارة والانحرافات المعرفية ـ قراءة في رواية فواز حداد تفسير اللاشيء

  في السرد الروائي نجد أنفسنا أمام مجموعة من الصور الكلية التي تصنع استعارات بلاغية مختلفة في الشكل عن المفهوم البلاغي المتعارف عليه في ك...