الأربعاء، 3 مارس 2021

الاستعارة والانحرافات المعرفية ـ قراءة في رواية فواز حداد تفسير اللاشيء

 


في السرد الروائي نجد أنفسنا أمام مجموعة من الصور الكلية التي تصنع استعارات بلاغية مختلفة في الشكل عن المفهوم البلاغي المتعارف عليه في كتب البلاغة التقليدية، فقد أفضى التداول اليومي إلى إضفاء صفة المباشرة والتقريرية على كثير من الاستعارات التي (نحيا بها). وعندما نقرأ هذه الصور  -الاستعارات- نجدها تصنع غطاء يتوارى خلفه المعنى الذي أرق الكاتب منذ بداية التماع الفكرة في ذهنه إلى لحظة الانتهاء من كتابته، ولو افترضنا أن كاتباً مثل فواز حداد توصل بعد طول معايشة وتجربة مع سنوات القتل والدمار في سوريا إلى نتيجة مفادها أن شرائح واسعة من المجتمع السوري (المؤيد والرمادي والصامت) هم مرضى نفسياً، وأراد أن يقدم لنا مثل هذه النتيجة القابلة للدحض والمناقشة، سأتضامن معه وأفترض مسبقاً أن هذا المرض يدعى (الانحراف المعرفي) وهو مرض نفسي ناجم عما يمكن تسميته (الانحراف النمائي) إذ بكل تأكيد أن خللاً تربوياً ما حصل في مرحلة المرآة التي يتشكل فيها وعي الذات ووعي والآخر وتتكون خلالها الدوافع والمشاعر والإحساسات وأدى هذا الخلل بالضرورة إلى نوع من الإصابة بما يدعى (الإيمان المتعصب) وتشكلت لديهم أنواع مختلفة من اضطرابات الشخصية. وإذا كانت مرحلة المرآة مصطلح لاكاني (نسبة إلى جاك لاكان) في التحليل النفسي ويقتصر على فترة قصيرة جداً في بداية الطفولة إلا أنه يمكننا استعارته أيضاً وتطبيقه على مرحلة الطفولة الفكرية التي تتشكل خلالها الشخصية ويمتلك الفرد كامل ذاته بكل ما فيها من انحرافات معرفية لا يمكن لها أن تتسق إلا مع سلطة قامعة تجيد زراعة الخوف والإرهاب. وفي هذا الإطار تحديداً يمكن للخوف أن يستعير الرمز ويتلاعب بدلالته، ويستعير التُقْيَة ويتفنن في ممارستها حتى أنه يستعير أدوات الموت والإقصاء ويبدع في تبريرها، مجسداً كل هذه الاستعارات في أفراد فتكت بهم الأمراض، فاضطراب الشخصية هو طريقة للتفكير والشعور والتصرف تنحرف عن توقعات المجتمع والاضطرابات الشخصية هي أنماط سلوكية طويلة الأجل وتجارب ذاتية داخلية تختلف اختلافًا كبيرًا عما هو طبيعي ومتوقع بمعايير المجتمع.

ونستطيع تبيان هذه الاستعارات الاضطرابية من خلال إلقاء الضوء على بعض شخصيات رواية فواز حداد (تفسير اللاشيء) التي مارست سلوكياتها المنحرفة بعيداً عن توقعات المجتمع الثائر ضد الاستبداد والإرهاب في مملكة الخوف:

بدءا بالصفحة الأولى يضعنا فواز حداد أمام شخصية الأستاذ الجامعي عبدالحميد الصاروف الذي تصل به شخصيته الفصامية إلى درجة الإحساس بأنه كائن غير مرئي فيعبر الشارع غير آبه بشارته الحمراء مما يعرضه لحادث كاد أن يودي بحياته لكنه يتابع سيره وقد ارتسمت على ملامحه علامات الدهشة من نظرات الناس فقد أيقن أنهم رأوه واستغربوا تصرفه. وسنكتشف مع متابعة القراءة أن هذه الشخصية جمعت في ذاتها مختلف أنواع الاضطرابات الشخصية أما ما كان يفكر فيه أثناء سيره ليس ماحل بالبلد من دمار ولا بأنواع الموت الذي يتقافز في الشوارع وإنما كان يفكر بامرأة هجرته.

لم يكن الصاروف في بداية عهده شخصية مضطربة بل استطاع الحصول على معدل ممتاز في رسالة الماجستير في العلوم الاجتماعية وكان يعد العدة لبحث معمق عن أمراض العصر لينال به رسالة الدكتوراه، كان قد استكمل ذاته النرجسية إذ يتمتع بلمعات ذكية ويطرح آراءه الجريئة بطريقة تضع المتربصين به في حيرة حول تفسير مقاصده، لكنه حورب من قبل اللجنة الفاحصة ولم تُقبل الرسالة وأُشيعت حوله التكهنات التي اعتادت تصنيف أمثاله في خانات الجهات التي يعمل معها، وكل ذلك لعدم وجود واسطة تفتح له الأبواب. هذا الوضع جعله يعيش سلسلة متوالية من الإحباط والانكسار ستجعله يتحول إلى شخصية حدية غاضبة باستمرار (لم ينتحل صاروف شخصية المفكر الحانق. كان مفكراً حانقاً بالفعل، الأوضاع الكارثية قدمت له الذرائع القوية والكثيرة ليغضب باستمرار، والتعبير عن انتقاداته بقدر كبير من السخرية والخفة، تشير ولو مواربة، إلى ما آلت إليه أمور الناس في بلد يتحكم به العسكر اللصوص والشبيحة) صـ15

تستعيد شخصية صاروف بعضاً من توازنها عندما تقبل إحدى الجامعات الخاصة بتوظيفه مدرساً نتيجة شحّ المدرسين وندرتهم في ظل الحرب الدائرة في البلد وعلى شعب البلد. وفي الجامعة يحب إحدى طالباته ويتزوجها فيشعر بمزيد من الاستقرار لدرجة أنه عاد إلى التفكير بإعادة العمل على البحث الذي يُشخّص فيه أمراض العصر. إلا أن حادثة رآها بعينيه بدأت تقلب له موازين التفكير الفلسفي وصار يتنقل من فكرة نهاية التاريخ إلى فكرة التاريخ يتقدم إلى الخلف إلى فكرة الركون للعدم واليأس، لقد رأى الشبيحة وهم يضربون شاباً صغيراً بأيديهم وأرجلهم حتى لفظ أنفاسه الأخيرة دون أن يجرؤ أحد في السوق على الاقتراب. هذه الحادثة نقلته من واقع المشاهدة التلفزيونية إلى واقع دخول الكادر وهذه النقلة تعكس سلوك شرائح واسعة من المثقفين الخائفين من الاعتقال.  فتعاملوا مع الحدث السوري وكأنه مسلسل تلفزيوني تجري أحداثه بعيداً عنهم يواصلون حيواتهم في المقاهي وفي السهرات منشغلين بالتحليل والتفسير ولا يملكون إلا سلاح التقية والمداورة بما يرضي الجهات الأمنية أو بما يكفل عدم سقوطهم في قبضة الجهات الأمنية. تزداد حالة الأستاذ الجامعي سوءاً ويدخل في عدمه الخاص مقتنعاً أنه تحول إلى لا شيء وأنه دخل في ثقبه الأسود الذي شكل لفترة زمنية طويلة عماد فلسفته. لقد أراد صاروف استعارة الفلسفة لتمنحه التوازن لكن قرار سهير بتركه والابتعاد عنه قلب هذا الميزان وأفقده توازنه للأبد. فالواقع بتبدلاته العنيفة يُصيب الفلسفة بارباكات متوالية وتحتاج إلى زمن كي تستعيد توازنها.

وإذا كان الأستاذ الجامعي قد اصطدم بواقع وجوده داخل الكادر وأن أصوات المدافع على داريا وأصوات القذائف ليست مجرد حرب في مسلسل وإنما هي حرب ستلتهم الجميع فإن الفنان التشكيلي أيضاً يسقط دون وعي منه داخل الكادر، لكنه سرعان ما يجد المنفذ إلى بر الأمان، فبعد خوضه في الكثير من المدارس الفنية التي لم يستطع أن يبدع من خلالها نراه يبتدع نظريته الخاصة (  الفن المفشكل) وفيها يرسم الجسد المفشكل باعتباره أحد تداعيات (جماليات القبح) ومع تحقيقه لشهرة واسعة في زواريب الفن وإصرار أصدقائه على الظهور في معرض عام يعاود حساباته الخاصة والتي تتلخص بفهم رجال الأمن لما يرسم فهذه الأجساد المشوهة والأيدي والأفخاذ بدأت تتشابه مع ما يتم تسريبه من صور أجساد المعتقلين فيقرر العودة إلى التجريد الذي (يتسع لكل ما لا يتسع له الفن بأنواعه القديمة والحديثة، ما ينجيه من أخذ موقف إلى جانب أي طرف، وفي الوقت نفسه، يفتح له المجال للانحياز إلى النظام والثورة والمعارضة والميليشيات المذهبية بأنواعها، وإذا احتاج الأمر للشبيحة أيضاً) صـ156

أما المنظّر السياسي في (تفسير اللاشيء) فهو الشخصية الأكثر اتصافاً بالإيمان المتعصب، والأكثر نرجسية وتعالياً، معجب بنفسه ولديه إحساس كبير بأهميته، يتملكه شعور بالاستحقاق ورغبة واضحة بالاستفادة من الآخرين. ولو كان على حساب دماء الشباب الذين تأثروا بإرشاداته وخرجوا للتظاهر مع معرفته الدقيقة بأن عناصر الأمن بانتظارهم وسيموتون بالرصاص لامحالة، ليؤكد نظريته بأن القوة هي التي تتحكم بالعالم وهي صانعة التاريخ.

هذه الشخصيات الثلاث تمثل استعارة المؤلف البلاغية التي يعكس من خلالها دور النخبة المثقفة ( مفكر وفنان ومنظّر سياسي) في التعاطي مع أهمّ لحظة تاريخية مفصلية في حياة سوريا، ولا يمكن بحال من الأحوال تبرير هذا الدور بمرض نفسي ناجم عن خلل تربوي في بدايات النشأة  فمرحلة المرآة كما ذكرنا من قبل يمكن استعارتها في تمثيل مراحل الطفولة الفكرية لهذه النخب ( المثقفة) لقد تشكلت ذواتهم الفكرية في ظل الإعلام الأسدي والمناهج التربوية الأسدية وعايشوا الفساد منذ نعومة أظفارهم تحت مظلة الخوف الرهيب الذي بدا وكأنه حتمي ومديد لذلك اشتغلت جميع حواسهم -وبملء إراداتهم- على غريزة التكيف والتلاؤم مع الطبيعة الأمنية لهذا النظام فأصبحت شعاراتهم الثورية تتجه للخارج وأصبحت تحليلاتهم الفكرية والسياسية تتجه للخارج، مع التعامي العام عما يحدث في الداخل، إنهم يتحدثون عن الخراب دون الإشارة للمخرب ويذكرون الفساد دون الإشارة للفاسد فأصبحت كل ويلات البلاد التي يعانون منها بسبب الخارج والمؤامرة الكونية والإرهاب. لقد منحتهم غريزة التكيف قدرة خارقة على الانحراف المعرفي بدءاً بتبنيهم لأيديولوجيات مختلفة وانتهاء بتبنّيهم تفسيرات تضمن لهم عدم التفات رجال المخابرات إليهم، وهذا بالضبط ما جعل الموقف الأخلاقي غائباً تماماً عن حساباتهم الخاصة فهو مكلف جداً في نهاية المطاف، إنهم النتيجة الطبيعية لبذور الخوف التي زرعتها الفروع الأمنية منذ بداية تأسيسها. وهم ثمار شجرة الخوف.

 رابط المقال على ضفة ثالثة :
https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/books/2021/3/3/%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D9%81%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%81%D9%8A%D8%A9

 

 

 

 

 

 

الاستعارة والانحرافات المعرفية ـ قراءة في رواية فواز حداد تفسير اللاشيء

  في السرد الروائي نجد أنفسنا أمام مجموعة من الصور الكلية التي تصنع استعارات بلاغية مختلفة في الشكل عن المفهوم البلاغي المتعارف عليه في ك...