الأحد، 21 أكتوبر 2018

أنقذوا خالد العيسى


أنقذوا الرائد الطيار خالد العيسى.
نداء إلى كل الأحرار في تركيا والعالم
خالد العيسى معتقل. هذا هو الخبر الذي لم يصل إلى مسامع أحد في هذا العالم المافيوي، ولم تهتم كبريات الصحف العالمية بمتابعته ولا حتى محطات التلفزة العالمية وكي نكون دقيقين أكثر نقول: لم يهتم حتى الإعلام الثوري به فمن هو خالد العيسى كي تثار حوله قضية؟ ومن هو خالد العيسى كي نهتم بأمره. إنه ببساطة ثائر حر.
كان على خطوط التماس مقابل قوات داعش في حرب مع السواد فقد فيها إحدى عينيه عندما طالبته جبهة النصرة بسلاحه الثقيل مدعية ملكيتها له إثر قضائها على جبهة ثوار سوريا سنة 2014 ، ولأنه يتمتع ببصيرة نافذة فقد آثر تدمير الدبابة التي يملكها فصيله الصغير على أن يسلمها لجبهة ما يزال قائدها ملثماً وما يزال مجهولاً لكل أبناء سوريا. وبعد أن قضت الجبهة على فصيله استطاع الهرب إلى تركيا ليستمر في ثورته لكن هذه المرة بالقلم بعد أن انتهى عصر التظاهر وانقضى زمن الكفاح المسلح بالنسبة إليه.
تناول في مقالاته عبر مواقع التواصل وقنوات التيليغرام كل مظاهر الفساد والكذب والخداع كاشفاً المعارك المزيفة التي خدعت فيها جبهة النصرة وحلفاؤها الشعبَ السوري، وموضحاً زيف المعارك التي انتهت جميعها بتسليم المحرر منطقة منطقة بدءاً من كسب وليس انتهاء في حلب. وكان من أوائل الناس الذين فضحوا أمراء الحرب الذين تنازعوا على الغنائم ووصل بهم الأمر لدرجة سرقة ممتلكات البنية التحتية  لهذا الشعب الثائر، ففضح مفككي السكك الحديدية والمحطة الحرارية وغير ذلك الكثير.
ورغم كونه ينحدر من بيئة عسكرية وهو الرائد الطيار إلا أنه استغل فترة وجوده في تركيا ليدرس العلوم السياسية ويتابع بالتفصيل تنازلات هيئة التفاوض وجماعة الائتلاف في آستانة وسوتشي والرياض محللاً مقدماتها ومستقرئاً لنتائجها غير عابئ بالكم الهائل من التهديدات التي وصلته لدرجة أنه كان يتوقع الاغتيال في أي لحظة، ويحسب خطواته وتحركاته حساباً دقيقاً وقد أيقن مبكراً أن شبيحة الأخوان المسلمين لا يختلفون بشيء عن شبيحة الأسد، ولأن معظم كتاباته في الآونة الأخيرة كانت تنتقد تصرفاتهم على الأرض وتفضح فسادهم فقد ازدادت وتيرة التهديد، ومع اندلاع مظاهرات الشمال الأخيرة من جديد تبين لهم قدرته على تحريك الشارع عندما استطاع مع من تبقى من شرفاء الثورة أن يفرضوا تسمية الجمعة الأخيرة ( جمعة هيئة التفاوض لاتمثلنا ) في هذه الأثناء التفت شبيحة الثورة المتأسلمين وبدؤوا حرباً ضده في غرف الواتساب متهمينه أنه صاحب خمس صفحات يديرها عملاء للنظام من تركيا وأمريكا والكويت ومصر والإمارات ورجعوا إلى مقالاته فوجدوه يكشف خداع المتسلقين ويفضح انبطاح المتآمرين ، ويشرح للناس الدور القذر لجماعة الأخوان المسلمين المهيمنين تماماً على هيئة التفاوض وعلى ما يسمى بالائتلاف الوطني، والقابضين بيد من حديد على الموارد المالية في الشمال المحرر وبواسطتها يريدون تحريك الشارع على هواهم. لقد شعروا بالخوف عندما وجدوا أن له أكثر من ثلاثة عشر ألفاً من المتابعين فسارعوا إلى ارتداء شخصياتهم الحقيقية، شخصياتهم التي كانوا يظهرون فيها أيام كانوا يكتبون التقارير الأمنية قبل اندلاع الثورة، تناولوا قلماً وورقة وبدأ أحدهم يكتب لكن هذه المرة باللغة التركية وفاض قلمه بكل أنواع التهم فأخبر رجال الأمن الأتراك أنه يتهجم على تركيا ويهين هذا البلد العظيم ويشكل وجوده خطراً عظيماً على الأمة التركية والإسلامية. قدموا تقريرهم فسارعت قوة من الأمنيات في مدينة الريحانية إلى بيته واعتقلته، في الأمنيات تم التحقيق مع هذا الرجل الحر وبعد ترجمة مقالاته اكتشف المحققون الأتراك أن التقرير كيديّ، وأعلنوا براءته مما نسب إليه، فما كتبه ينضوي تحت بند حرية التعبير.
كتبة التقارير لم يحزنوا لبراءته بكل تأكيد فهم يعرفون القانون التركي جيداً والذي ينص على تحويل أي مقيم خضع لتحقيق ما وثبتت براءته إلى ما يسمى بـ ( الفرع أو المخفر 500 ) في أنطاكية وسيقرر المخفر إما ترحيله أو سجنه لفترة طويلة ريثما يُبَتُّ في أمره وسينتهي غالباً إلى الترحيل.
كتبة التقرير عبروا عن فرحتهم بهذا الإنجاز لأنهم يعرفون ما الذي سيحصل بعد الترحيل وهو المطلوب لجبهة النصرة، والمطلوب لعصابة الأسد ، والمطلوب لخلايا داعش النائمة في معظم الفصائل العاملة في الشمال، يعرفون تماماً أن نهايته ستكون إما كنهاية حسين الهرموش أو كنهاية الضابط الحر محمد خليل الذي اعتقلته جبهة النصرة وأعدمته.
أيام قليلة جداً تفصل خالد العيسى عن نهاية بشعة قد تكون أبشع من نهاية جمال خاشقجي وأبشع من نهاية حسين الهرموش. فهل تتحرك ضمائر الأحرار والشرفاء لإنقاذه أم أن الثوار الحقيقيين لا بواكي لهم.

الثلاثاء، 16 أكتوبر 2018

إسماعيل فهد بين العنقاء والخل الوفي



نتيجة بحث الصور عن في حضرة العنقاء

يحقق إسماعيل فهد في روايته الجديدة نقلة نوعية ومختلفة ـ أسلوبيا ـ عن رواياته الأخيرة فقد اعتمد السرد التقليدي منهجاً بعيداً عن مشهدية الحوار وآليات العرض السينمائي التي ميزت معظم رواياته السابقة . وقد آثر في هذه الرواية أن يكون الراوي مشاركاً في الحدث معتمداً على ضمير المتكلم وذلك خضوعاً لضرورات ومتطلبات الموضوع ، وبهذا يكون الموضوع قد فرض شكله الذي ينبغي أن يخرج به .
أما عن ضرورات الموضوع فتتمثل في كون الرواية بالمجمل خطاب أب لابنته التي لم يرها . هذا من جهة ، وهي من جهة ثانية تأصيل تاريخي لمواطن يرفض وطنه الاعتراف به ، والرواية بوجهيها هذين تفرض على الكاتب هذا الراوي المشارك ، وتفرض عليه كذلك ضمير المتكلم ، ومَنْ أكثرُ قدرةً على الإقناع من صاحب المشكلة وهو يروي قصته؟
يمهد إسماعيل فهد  لروايته برسم عام عبر مجموعة من الأحداث الصغيرة لنعرف أن الشخصية الرئيسة من غير محددي الجنسية والده متوفى ، وأمه امرأة أنهكها المرض الرئوي، والبحث الدائم عن سبيل يفضي بها إلى عالم المواطَنة، ولذلك لا عجب أن يختار له اسم ( المنسي ) والذي أضاف إليه الفنان محمد السريع لقب ( ابن أبيه ) على سبيل الدعابة فصار علماً له بين الناس ، وكلاهما الاسم واللقب يساهمان وبفعالية كبيرة في تكوين أفق التلقي لدى القارئ بما لهما من دلالات وقدرة على الانزياح في رسم ملامح الشخصية، لكن الرواية لا تكتفي بهذه الدلالات بل تقدم وعبر أحداث ثانوية ما يشي ببعض الأبعاد النفسية لهذه الشخصية ، فأن ينقاد إلى أوامر صقر الرشود كي يلعب دوراً هامشياً في مسرحية وهو مجرد فراش ، وكذلك أن يُخطط له صقر الرشود وعبد العزيز السريع مستقبله من خلال تسجيله في المعهد العالي للفنون المسرحية دون طلب منه ودون معارضة منه، وأيضاً يخططان له لرحلة فيما بعد إلى دمشق ، يجعلنا متيقنين أننا أمام شخصية مسلوبة الإرادة وهذا ما ستؤكده صفحات الرواية القادمة بالمجمل لدرجة أننا نجده ينقاد حتى إلى الزواج انقياداً ، إضافة إلى ذلك نجد أنفسنا أمام شخصية تعيش حالة قصوى من الاغتراب ويكفي أن يكون الشخص في المجتمع الكويتي من طائفة غير محددي الجنسية ( البدون ) ليعيش هذا الاغتراب فكيف إذا ترافق ذلك مع الفقر ؟! بكل تأكيد سيصل الإنسان هنا حالة من انكسار الأحلام تصل به إلى درجة الإحباط ، وتأتي المعرفة هنا لتعزز هذا الشعور وتساهم في دفع المغترب إلى إيجاد حلول ما، فالمنسي كاتب صحفي معروف وهذا يعني أنه يعي تماماً أبعاد أزمته، وحجم مأساته .
 بخلاف الإنسان البسيط الذي يجاهد ـ فقط ـ كي يتأقلم مع الوضع ويتصالح معه فيجسد بذلك حالة من الاستلاب إذ غالباً ما ينتهي الأمر في هذه الحالة بنوع من التصالح مع القوة القاهرة على حسابه الخاص، بحيث يبقى الأمل مجرد شمعة تكاد تنطفئ في أعماق ذاكرة أم مجهدة .
لقد جاء اختيار الكاتب لشخصية ( منسي ) تجسيداً لحالة الإحباط التي تعيشها هذه الشريحة من المجتمع وإذا كنا قد تعودنا المرور على كلمة الإحباط مرور الكرام ، أرى من الواجب التوقف عند هذا المصطلح الذي يعد مؤسِساً لكثير من السلوكيات التي يسلكها الإنسان فيما بعد . فالإحباط هو : ( أي عرقلة أو صد لتحقيق حاجة، أو رغبة أو أمل بسبب ظروف خارجية، يعاش وجدانياً كتفشيل وجودي أو حرمان مادي. يولد الإحباط إجمالاً مشاعر الغبن غير المستحق. وهذه تفجر العدوانية ومشاعر الحقد التي تتوجه إلى الخارج، إلى الموضوع المسؤول عن الإحباط، أو أي موضوع بديل، أو هي ترتد على الذات على شكل قسوة عليها ،الإحباط إذا يُولِّد مشاعر العداء أو مشاعر القهر والمهانة )[1]  وفي موضوعنا من السهل جداً اكتشاف أن ابن أبيه يعيش هذا التفشيل الوجودي والحرمان المادي ضمن إطار المجموعة الثانية من المشاعر ، مشاعر القهر والمهانة ، إذ من اليسير ملاحظة بعض سلوكيات زملائه في المدرسة ، وأيضاً إلحاح المشرف الاجتماعي عليه لإحضار ولي أمره ومن ثم رصد أحاسيسه تجاه ملبسه الوحيد وانتهاء بموقف سعود وأخته منه ، فشخصية المنسي شخصية تعيش وجوداً مزيفاً حد تعبير هايدغر Martin Heidegger ( 1889 ـ 1976 ) الذي يرى أن الوجود المزيف هو الوجود الغارق في الحاضر (    الذي تحدده الاعتبارات والعادات ، لا اختيار الإنسان نفسه بنفسه ، وبإدراك تام للأوضاع الإنسانية الأساسية ، إذ يكون الإنسان مغترباً عندما يتخلّى عن حق الاختيار ويهرب من ذاته والأزمات ويعيش في حالة من الزيف ، ويغرق في الحاضر وفي عالم الآخرين، فينفي وجوده ويصبح " واحداً من الآخرين " بكلام آخر يعيش الإنسان وجوداً اغترابياً بقدر ما يمتثل للعادات وتوقعات الآخرين ويفشل في تحقيق وجوده الأصيل ، في هذه الحالة يصبح الإنسان شخصاً آخر لا نفسه )[2]. وقد تجلى ذلك من خلال انغماس المنسي انغماساً كلياً في المقاومة ليؤكد ـ لاشعورياً ـ انتماءه الوحيد إلى هذا الوطن ، وهو إذ يمارس هذا الانتماء فإنما يمارسه إرضاءً لذاته فقط ، بدليل برودة تعامله وحياديته تجاه الملف الذي كان الشغل الشاغل لأمه طيلة حياتها والهم الوحيد لها طيلة حياتها أيضاً في حين أن المنسي غلفه بغلاف يحفظه وفقط . لم نلحظ عنده هذا الانهمام به .
لقد امتثل المنسي لرغبات الآخرين في مجمل سلوكياته اليومية ، منقاداً لهم باستسلام اغترابي شديد ، وإن كان ذلك يتم أحياناً برغبته وأحياناً رغماً عنه. فهل أرادت الرواية أن تقول أن هذه الفئة من الناس فئة تؤجل إرادتها الحرة إلى حين الحصول على بطاقة الهوية ؟ وهل أرادت الرواية القول أن هذه الفئة من الناس فئة ذات وجود مؤجل ؟ بالتأكيد سنظلم الرواية إن قلنا نعم فالمنسي في نهاية الأمر فرد ، ومهما حاول الروائي ـ أي روائي ـ أن ينمذج شخصية لايمكنه في نهاية الأمر إلا أن يصب فيه بعضاً من السمات الفردية للإنسان ، وإذا كان المنسي ممن ينتمون إلى الشريحة الثانية من المحبطين والذين تولدت في نفوسهم مشاعر القهر والمهانة واستسلم لها فثمة شريحة ربما أوسع ممن ولّد عندهم الإحباط مشاعر العداء وللعداء سلوك آخر .
وتأكيداً على فردانية المنسي يجعل الكاتب له هواية تكاد تكون فريدة وهي جمع قصاصات الجرائد وتصنيفها في ملفات ، تتعلق بشخصيات عامة في البلد وثمة إشارات إلى البعض من هذه الشخصيات الذي يمارس نوعاً من الفساد. وإذا كان ( منسي ) قد رفض الإفصاح عن الغاية من جمع هذه القصاصات وتصنيفها إلا أن سياق الرواية يفضي إلى أن هذا المنسي لاينتمي إلى هذا الوطن وحسب وإنما يعيش هذا الانتماء في حين أن بعض من يتشدق بالانتماء ينتمي في واقع الأمر إلى الدينار وليس إلى الوطن . فالاهتمام المبالغ به في جمع هذه الملفات إنما يعكس في واقع الأمر رغبة دفينة في عيش الحاضر من خلال توثيق دقيق لحيوات أبنائه ، وهي تعكس أيضاً أملاً مخبوءاً بولادة وطنية يوماً ما ، فإذا ما تحقق هذا الأمل يكون منسي جاهزاً للخوض في الواقع المعاش للوطن .
من ناحية ثانية يمكن أن نعد هذه الهواية شكلاً من أشكال الدفاع للمحبَط المغترب كي يؤكد لنفسه على الأقل أنه يتمتع بإرادة خاصة ويعيش حاضره ـ كما ذكرنا ـ وقد عزز هذا الجانب قراره بالكتابة لابنته ،  إذ أن مجرد الكتابة لها هو توثيق رسمي لحاضر عاشه قبل أن يكون رغبة أب بتبرير غيابه عن ابنته، وقبل أن يكون اعتذاراً لها على تفريطه بها، ولتأكيد صدقية هذه الوثائق يلجأ الكاتب إلى استخدام الأسماء الحقيقية لكثير من الشخصيات الواقعية التي مايزال الكثير منها يعيش بيننا ، لقد أرادهم الكاتب شهوداً حقيقيين كبرهان ودليل ، واستخدام هذه الأسماء ذو فائدة مزدوجة بالنسبة للشخصية الرئيسة في الرواية ( منسي ) فهو من جانب استخدام يهدف لأن يكونوا شهود عيان على وطنيته وانتمائه الأصيل ، ومن جانب آخر هم من سيشهد لزينب على صدقية أبها ،رغم أننا نجدها في الفصل الأخير  تمنح أباها صك الغفران حيث تدرك أن مجمل الظروف التي عاشها كانت أقوى من أن تسمح له بأي فعل . وهو الذي لا يتردد بوصف نفسه بـ ( الغائب الحاضر  ) الغائب بالإرادة الحاضر بالجسد .
تقنية الاستباق في البنية الحكائية للرواية :
في كثير من الأحيان لاتمنحك الذاكرة نفسها ، فقد تجود عليك أحياناً وتبخل عليك أحياناً ، وأن تستعيد حكاية عشتها وخرجت منها قبل سنوات لكنها ماتزال تسكنك فهذا يعني أنك كثير التأمل فيها ، وفي التأمل تكثر الأمنيات عبر استخدام ( لو ) أو ( لولا ) ولهذا يعترف الكاتب ( منسي ) بصعوبة إعادة ترتيب الحكاية فقد مرت سنوات طويلة وهو يحاول إلى أن قرر أخيراً أن يكتبها عبر أسلوب التداعي الحر ( خبط عشواء ، غير ملزم بتسلسل الأحداث حسب المنطق المعتاد لتواليها ، منساقاً لتداعي لحظتها الآنية ) وبالتالي وجد لنفسه مخرجاً تقنياً من صعوبة وضع مخطط درامي للأحداث لكن هذا لم يمنع من أن الرواية جاءت بتنسيق زمني حسب المنطق المعتاد لتواليها ، إلا أن أسلوب التداعي الحر سمح للرواية بأن تكثر من تقنيتيْ الاسترجاع و الاستباق فإذا كانت تقنية الاسترجاع تسمح بتسليط الضوء على شخصية أو حادثة ما فإن تقنية الاستباق تكسر أفق التوقع لدى المتلقي و ترفع من حدة التوتر وبالتالي تساهم في ترسيخ عنصر التشويق في العمل وهو تشويق ليس إلى معرفة النهاية وإنما إلى الآلية التي سارت بها الأحداث كي توصل إلى هذه النهاية، وهذا ما يجعل القارئ مشدوداً إلى سطور النص أكثر ، ففي زيارة المنسي إلى دمشق وتعرفه على زوجة المستقبل ( عهود ) وهي امرأة ذات تجربة سابقة بالزواج ،نجده وقد أخذته إلى غجرية عرافة حيث تنبئها بطلاق جديد. فإذا كنا نذكر أحداث ( قصة موت معلن ) سنجد أن ماركيز لعب وبذكاء شديد على هذه التقنية حيث جعل أبناء البلدة جميعاً ومعهم القتيل ، وأيضاً القارئ يتأكدون من مقتل ( سانتياغو نصار ) ومع ذلك يتصاعد عنصر التشويق لدى المتلقي لمعرفة الجواب على السؤال الأكثر إلحاحاً على ذهنه ( كيف ومتى ؟ ) . كذلك مارس إسماعيل فهد التقنية ذاتها فبدءاً بالصفحة الأولى يعرف القارئ أن الكاتب يكتب لابنته وأن الكاتب غير متأكد من أنه سيراها قبل موته ، وسيعرف القارئ لاحقاً أن الكاتب لم ير ابنته على الإطلاق إلا في الحلم وبالتالي سيبني المتلقي أفق التوقع بدقة إذ سيتأكد من أن منسي سيتزوج عهود وسينجبان زينب وسيقع الطلاق ، لكن يبق السؤال ذاته معلقاً ( كيف ومتى ؟ )  . وسيعود الكاتب ثانية لاستخدام تقنية الاستباق عبر الحلم الذي راوده ذات ليلة ، إذ نجد الرواية في نهايتها تفسر رموز الحلم تأكيداً على حصولها .
بعد عودة المنسي من دمشق ، تسير الرواية وفق تسلسل زمني يتوافق مع التوالي المنطقي للزمن حيث نرى الأحداث تتابع وتتلاحق بدءاً بالزواج وصراع عهود مع شقيقها سعود أولاً ثم الاجتياح العراقي للكويت ودور المنسي في المقاومة ومن ثم تحرير الكويت واعتقال المنسي ثم خروجه وطلاقه . إلا أن هذا التوالي الزمني يبقى في حالة من عدم الاستقرار ، ويبقى مشوهاً في ذهن القارئ وذلك بسبب هذه اللعبة الاستباقية التي مارسها الكاتب ، وإذا استثنينا المرة الأولى التي يخاطب فيها المنسي ابنته ـ تبدأ الرواية بـ ( يازينب ) ـ فإن كل ذكر لزينب بعدها يخلخل في ذهن القارئ هذا التسلسل الزمني ، إذ سينقل المتلقي مباشرة من زمن الحدث وهو الماضي إلى زمن الكتابة وهو الزمن الحاضر ، وما نلبث بعد الانتهاء من قراءة ( يازينب ) حتى نعود إلى زمن مضى .
وإذا كانت البنية الحكائية تتناول في بعدها الشكلي هذه التقنيات فإنها في بعدها المضموني تطرح السؤال الأهم بالنسبة للرواية ككل ويتجسد هذا السؤال في ذهن المتلقي ربما قبل انتهائه من القراءة :
 ( ما الذي ينقص الإنسان كي يكون مواطناً ؟ )
بصبر وأناة وحرفية كلاسيكية يرسم إسماعيل فهد الكثير من التفاصيل الحياتية ليمنح هذا المنسي أكبر قدر من التعاطف وليضع المشكلة برمتها أمام أصحاب الحل والربط . فمنسي ابن الكويت مولود فيها وتكون وجدانه الوطني على نشيدها أثناء دراسته فيها ، ساهم في حركتها الثقافية وناضل لأجلها أثناء محنتها الكبرى التي هددت وجودها، واعتقل في سجون المحتل وكان له دوره الفعال في ( إذاعة المقاومة ـ إذاعة بو فهود ) ومعه من الوثائق مايثبت أن والده ووالدته كانا ممن شملهم تعداد العام 1965 ، ومع ذلك يبقى خارج الاعتراف الوطني . ما الذي يريده الوطن ـ أي وطن ـ أكثر من ذلك ؟
في المقابل تطرح الرواية جانباً على غاية من الأهمية يتمثل في المكافأة التي نالها المنسي مقابل حبه لهذا الوطن وقبل الخوض في هذا الجانب يجب أن نميز بين شريحتين اثنتين تمثل كل منهما نموذجاً في التعاطي مع المشكلة .
الشريحة الأولى تتمثل في أسماء محددة ( صقر الرشود ـ فؤاد الشطي ـ عبد العزيز السريع ومحمد السريع ـ سليمان الياسين ـ مبارك سويد ـ ويمكن أن نضيف أيضاً شخصية القاضي صلاح الفهد ) هؤلاء يمثلون الجانب الإنساني المشرق الذي جعل من المنسي يقول لابنته زينب ( الفن موقف إنساني يبدو شخصياً أحياناً ) في معرض الحديث بين صقر الرشود وعبد العزيز السريع عن ضرورة إكمال المنسي لدراسته ، فما الذي جعله يطلق هذا التعريف للفن ؟ لولا فيوض إنسانيتهم عليه .
في هذه الشريحة نجد الحياة بأبسط أشكالها ونجد الانتماء في أبهى صوره ونجد التضحية الخالصة لوجه الإنسانية والوطن ، دون السؤال عن مقابل .
أما الشريحة الثانية فتتمثل أولاً بشخصية سعود وثانياً بشخصية عهود ، إذ يمثل سعود شريحة النخبة الثقافية الانتهازية بينما تمثل عهود في موقفها من البدون شريحة لها حضورها النسبي ضمن المجتمع الكويتي ، وفي حين ارتكب سعود بشكل أو بآخر خيانة للوطن من أجل مصالحه الخاصة ، نرى عهود ترتكب خيانة لزوجها إذ تتخلى عن كل خلافاتها مع أخيها سعود وتتخلص من زواجها استجابة لرغبة أخيها الذي أقنعها أن البدون طرف إلى جانب الاحتلال، هذا من جانب ومن جانب آخر فقد حققت حلمها بطفلة تربيها ، وكأنما كانت تضمر في داخلها أن هذا الزواج برمته مجرد وسيلة لهدف تم تحقيقه، وربما تكون نبوءة العرافة قد ساهمت بتشكيل أو توضيح هذا البعد الأناني في شخصية عهود . نعود إلى المكافأة التي نالها هذا ( البدون ) نتيجة وطنيته غير المعترف بها . فما إن تحررت الكويت حتى سارع سعود بالإبلاغ عنه مما أدى إلى اعتقاله وسجنه ، ولولا تدخل الشريحة الأولى ممثلة بالقاضي صلاح الفهد لبقي في سجنه سنوات وسنوات .
هذه المكافأة تخفي بين ثناياها جانباً سيكولوجياً أبعد بكثير من الجوانب القانونية للمشكلة تتمثل في نظرة الاستعلاء التي تعيش عليها شريحة واسعة نسبياً في المجتمع الكويتي فأسباب الحرب التي شنها الدكتور سعود على المنسي لا تتوقف عند رغبته فقط في وضع يده على تركة أبيه وإنما أيضاً قناعته أنه ذو مستوى اجتماعي أرفع بكثير من هذا ( البدون ) الموقف ذاته كرره سعود مع أخته جود التي تزوجت طبيباً سورياً أثناء إقامتها في دمشق للدراسة ، الفارق فقط أن جود تنازلت عن حقوقها وتركت الكويت إلى غير رجعة ، أما عهود فهي تعيش في الكويت .
إن كل التبريرات التي يقدمها سعود لرفضه هذا الزواج تتعلق بهذه النظرة الاستعلائية ، ووحده المال يستطيع أن يجعله يتنازل عن هذا الكبرياء المزيف مثلما رأينا في سلوكه مع أخته جود . ولأن عهود تحب المال أكثر منه ولم تتخلى عن حصتها في تركة أبيها ، نراه لايوفر وسيلة أخلاقية أو غير أخلاقية إلا ويستخدمها لنسف هذا الزواج .
لقد استطاع إسماعيل فهد بحق أن يقدم لنا صورة متكاملة عن المجتمع الكويتي بكل جوانبه المشرقة منها والمعتمة ، وإذا كان قد نمذج بعض الشرائح الاجتماعية عبر شخصيات الرواية فإن النموذج الذي أولاه كل العناية هو النموذج الممثل بمنسي ( غير محدد الجنسية ) لتأتي الرواية صرخة حق مؤلمة تعكس الجانب الإنساني الجميل لدى كاتب كويتي يعز عليه أن يرى حقوق الإنسان مثلومة في بلده .

                                                                                                                 عبد الرحمن حلاق 



[1] التخلف الاجتماعي ، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور ، ، د. مصطفى حجازي، المركز الثقافي العربي، المغرب ط9 2005، صـ134
[2] الاغتراب في الثقافة العربية ، حليم بركات ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ط1 ، 2006 صـ46

الاثنين، 15 أكتوبر 2018

الاجتزاء بين التكسّب والدين


عُرف عن العربية بلاغتها المتقنة وقدرتها على الإيجاز الشديد، الإيجاز لدرجة الحذف بدلالة السياق، وقد أسهمت هذه البلاغة بتأسيس نسق فكري ثقافي شبه ثابت في الذهنية العربية ولم تعد مجرد علم يختص به أهل البلاغة والمعرفة، فقد انداح على المستوى الشعبي وانسحب على مختلف الصعد ضمن استعمالات الواقع المعيش، متخلياً عن بريقه اللغوي، مرتديا لبوس المنفعة والتسلّك البراغماتي، وإذا كان قد حافظ على مسماه البلاغي إيجاز حذف) فقد انتقل إلى مسمى آخر في السلوك الفردي حيث صار الاجتزاء والحذف منهجاً عملياً نفعياً بغض النظر عن أهمية المحذوف وربما بتعمد مباشر للتعمية على المحذوف الذي إن ذُكر أبطل قصد المتكلم ونفى حجته. وهذا سينتج بالضرورة نسقاً أخلاقياً يتخلق به عامة الناس.
وبناء عليه فقد غدا اجتزاء عبارات من نصوص دينية ثم بناء قاعدة أو حكم عليها أمراً اعتيادياً جداً، ولأن المنجز الديني يلامس المشاعر والعواطف الإنسانية فقد وجدت هذه الأحكام طرقها القطعية التي يستسلم لها عامة الناس، بل ساهم عامة الناس بتأصيلها فيما يفيدهم وبالتالي أخذت منحى السلوك اليومي لكثير منهم. وكي لا يبدو الكلام محصوراً في جانبه النظري يمكن أن نضرب على سبيل المثال لا الحصر الحديث النبوي الذي يقول:
"خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام." من هذا المنطلق صار أبو سفيان وكثيرون أمثاله أخياراً ولم يتوقف إلا قلة قليلة جداً عند تكملة الحديث النبوي التي تضع شرطاً على غاية الأهمية لتحقق ذلك الأمر (إذا فقهوا) فمن يتفقه في الدين ينصاع للأوامر وينزجر عن الزواجر وهذان شرطان لتحقق التقوى، ولأنهما شرطان على درجة عالية من صعوبة التحقق في النفوس الضعيفة فقد تمّ التواطؤ شعبياً على تجاهل هذا الاجتزاء ليدخل هذا الشرط ضمن منظومة (الصح الضائع) التي أخلت مكانتها لـمنظومة (الخطأ الشائع) مستفيدة من القاعدة اللغوية عند نحاتنا القدماء الذين أسسوا لمقولة (خطأ شائع أفضل من صح ضائع) وبالقياس أيضاً تعامل الكثير من السوريين في بداية الثورة مع أي انشقاق يحصل على مبدأ (بندقية معنا أفضل من بندقية علينا) ليكتشفوا بعد حين أن الكثير من هذه البنادق كانت عليهم تسللت إلى مفاصل الثورة تحت ستار ديني أشبه بخياركم في الجاهلية.
وبناء على الكثير من هذه الاجتزاءات نتج الكثير من السلوكيات التي ابتدأت بحرف الثورة السورية عن مسارها وانتهت بتكفير الشعب السوري وتمزيقة تحت رايات عديدة جداً تلتقي جميعها تحت راية الكتاب وتفترق جميعها تحت رايات الاختلاف بالتأويل والتفسير والاجتهادات فعندما يبغي أحد الفصائل تمتنع جميعها عن قتاله بحجة أخوة المنهج أما عندما تقتضي الضرورة وتأتي أوامر الداعمين فيصبح عندئذ القتال بناء على فتوى (كي لا تكون فتنة) وهذه الآية من أكثر الآيات استخداماً خارج سياقها، وعبر التاريخ كانت متكأ للكثير من المجرمين ممن أرخوا لحاهم وقاتلوا أبناء دينهم قتالاً استئصالياً، وكي يرفعوا من حمية المقاتلين عبر الإيهام الدلالي تراهم يضيفون آيات أيضاً مجتزأة من سياقها وبإهمال متعمد وواضح للمعنى المركزي ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم) فإذا كان السياق القرآني يشير بوضوح إلى المشركين في صدر الإسلام وتحديداً منهم الذين أخرجوا الرسول ومن آمن معه من مكة، فإنه مع فصائل النصرة وداعش والزنكي وأمثالهم كانوا يقصدون فصائل الجيش الحر بدءاً بجيش ثوار سوريا وانتهاء بأكثر من عشرين فصيلاً غيره، خاصة مع توفر فتوى صريحة من الظواهري بعدم التحالف مع الفصائل العلمانية وفتوى من بعض مشايخ السعودية بعدم التبرع ودعم الفصائل التي لا ترفع راية لا إله إلا الله . أما كيف يكون القتل فقد جاء واضحاً وصريحاً بنص قرآني أيضاً مجتزأ من سياقه (فاضربوا فوق الأعناق) مع أن الخطاب في النص موجه للملائكة الذين ساندوا المسلمين في بدر، إلا أن كتائب الإرهاب القاعدي تتعامل مع هذه الطريقة بالقتل على أنها الطريقة المختارة من الله، وليست كناية عن القتل بالمطلق، وإذا كانت هذه الطريقة صعبة التنفيذ في زمن الرصاص إلا أنها في أحكام الإعدام كانت متبعة في كثير من الحالات.
لقد لعب اجتزاء العبارات الدينية دور المؤسس لسلوكٍ ظاهرهُ دينيٌّ وباطنهُ نفعيٌّ لا علاقة للدين به، إنها التقية بأبشع صورها الاستغلالية النفعية فقد تمت الانسحابات من معظم مدن المناطق المحررة بتبرير ديني وتم تفكيك البنية التحتية للمدن المحررة بتبريرات دينية فاختفت سكك الحديد كما اختفت المحطة الحرارية كما اختفت كل ممتلكات الشعب من المؤسسات العامة. وغدت التجارة بالدين هي الأكثر ربحاً على الإطلاق بين أمراء الحرب خاصة بعد أن تم القضاء على معظم فصائل الجيش الحر بتهم الفساد أو الشرك أو العلمانية.
إزاء هذا الفساد انقسم السوريون إلى مؤيد طامع في حصته من الغنائم، مطمئن إلى أن كل شيء يسير وفق الشرع ووفق ما أمر الله وإلى معارض لا يملك من أمره شيئاً ولا يملك غير الألم تجاه هذا الفساد، ومن حاول التصدي لهذا النوع من التقية في بدايات الثورة كان مصيره إما الاغتيال مع تسجيله في قوافل الشهداء الذين ماتوا بفعل القصف الأسدي، أو الفرار والهجرة بعد أن استشعر ما يُدبّر له. وبذلك غدا هؤلاء الإسلاميون بشرعييهم (أصحاب الدورات الشرعية المجتزأة) وبمشايخهم خيرَ معين للطاغية في القضاء على الجيلين الأول والثاني من شرفاء الثورة، فقد تكفلت النصرة وداعش بالقضاء على من لم يستطع الطاغية بشار قتله أو اعتقاله أو تهجيره.
عبد الرحمن حلاق

المثقف السوري والعمل الجماعي ـ رابطة الكتاب نموذجاً


قد تكون المبادرة الفردية على درجة من الأهمية في الظروف الاجتماعية المستقرة لكن الأهم في ظل الاضطراب المجتمعي والظروف الثورية أن ينحصر الخلاص بالعمل الجماعي وحده وبدونه لا يمكن لثورة أن تستقيم وربما بسبب غياب مفاهيم العمل الجماعي عن مجتمعنا لم يستقم أمرٌ من أمور الثورة السورية وستنتظر هذه الثورة _ربما_ جيلاً آخر ممن عركتهم التجربة كي تبدأ مرحلتها الثانية ضمن سيرورتها التاريخية.
سبع سنوات والمجتمع السوري في مرجل تحفه النيران من كل جانب وتعبث فيه حثالات الأرض بكل ما تملك من قوة عسكرية ومالية واستخباراتية. لم يحدث على مرّ الأزمان أن توحدت قوى الشر في العالم ضد شعب من الشعوب كما توحدت ضد الشعب السوري الذي طعنه الأخ قبل الصديق والصديق قبل العدو. رغم ذلك لايمكن وضع اللوم كاملاً على الغير، فالنخبة المثقفة من الشعب السوري تتحمل جزءا من هذا الخراب رغم كل آلات التمزيق الإقليمية والدولية، إذ لم تستطع أن تفرز جسماً واحداً متماسكاً يرتقي إلى مستوى الحدث ليعبر عن تطلعات هذا الشعب الثائر. لا على المستوى السياسي ولا حتى على المستوى الثقافي.
ضمن هذا السياق جاء تأسيس رابطة الكتاب وكانت بداية موفقة لانطلاقة مأمولة، ورغم أن عدد الأعضاء خلال السنوات اللاحقة قد تضاعف، إلا أن الآمال التي عقدت على انطلاقتها بقيت آمالاً. وبقيت مفاهيم العمل الجماعي خارج التصور.
 أين الخلل؟
قبل الإجابة على هذا السؤال علينا طرح السؤال الأهم وهو: لماذا اختفى الجزء الأكبر من الأعضاء عن المشهد؟ ولا أقصد فقط الأعضاء خارج الأمانة العامة فهؤلاء قد يكون لهم بعض العذر ولو بشكل جزئي، أما من فاز بعضوية الأمانة العامة وحضر مؤتمر القاهرة فعليه واجب أخلاقي يجب أن يلتزم به تجاه ذاته أولاً وتجاه ثورته ثانياً وتجاه الرابطة ثالثاً.
لا شك أن الأحداث الثورية التي عصفت بالبلاد قد شغلت بعضاً منهم، والبعض الآخر كان مهتماً بالتقاط صورة في المؤتمر، والبعض استشعر الخوف على أهله فانزوى جانباً، وأياً تكن الأسباب ينبغي ألا ننسى أننا نتحدث عن مجموعة مثقفين وكتاب وأدباء وهذا يقتضي بالضرورة أنهم أصحاب مواقف ثورية ويعني بالضرورة وعياً عالياً باللحظة التاريخية ومن هنا جاء خيارهم بالانتساب لرابطة انبثقت من رحم الثورة. ويقتضي كذلك أن يكون الاهتمام الثوري عند جميع الأعضاء على السوية ذاتها، فهل الخلل في بضعة أشخاص يديرون المكتب التنفيذي؟ أم أن الخلل ببقية أعضاء الرابطة الذين تناسوا وجودها أصلاً؟
ماذا يفعل بضعة أشخاص كي تستمر الرابطة على قيد الحياة؟
أثناء انعقاد المؤتمر في القاهرة كان المتحمسون للدعم كثر وكانت الوعود تزخ كالمطر فجأة وعقب المؤتمر تصحرت الأرض وتبخرت الوعود. ذهب المؤسس إلى مجلته الخاصة وذهب الممول إلى مؤسساته وشركاته، وبقي المكتب التنفيذي بإمكاناته المتواضعة جداً يبحث هنا وهناك عمن يسنده قليلاً.
لقد استمرت الرابطة بالحد الأدنى للدعم المادي وبالحد الأعلى للعمل التطوعي، طيلة السنوات الست السابقة ولن أدخل هنا في الخلافات الأخيرة فهذه فيها من الكلام الكثير لكني سأحاول توصيف واقع المثقف السوري وعلاقته بما يدعيه من إيمان وعمل على محاربة الاستبداد وتبني المواقف الثورية. خاصة وأن الخلافات وصلت حد الانقسام أو التدمير.
قلت في مقالة سابقة إن الرابطة بوضعها الحالي قد لاتساوي شيئاً لكن لموتها قيمة غالية الثمن وفي حوار قصير على صفحات الفيس مع الكاتب حسام الدين درويش ذكر نقطة مهمة عندما قال: "هذا الانقسام مدمر فعلي للقيمة الرمزية للرابطة وهي قيمتها الأساسية أو الأهم وربما الوحيدة."
وهنا نعود للإجابة عن السؤال الأساس. أين الخلل؟
أعتقد أنه يكمن في عقلية المثقف السوري ذاته، العقلية المحبة للتكاسل والساعية إلى بعض المنافع الشخصية والمتعالية لدرجة مَرْكَزَة الكون حولها، والخانعة لدرجة الضياع في البحث عن رئيس، قلة قليلة فقط أولئك الذين نجوا بأنفسهم من شرور هذه العقلية.
ربما حاول الجيل الشاب الأول الذي انطلق بالثورة أن يكون مغايراً لكن تصفيته الميدانية عبر مضخة العنف قتلاً واعتقالاً أفسحت المجال لتقدم الجيل الثاني الذي وجد نفسه مضطراً لحمل السلاح ومع السلاح صار أمر إغراق الثورة بالمال وتمزيق المجتمع وربطه بسلة الإغاثة متاحاً، وانقسم الكتاب والأدباء السوريون قسمين الأول راح يسعى بكل ما أوتي من علم ومعرفة على تبرير أفعال الطاغية والبرهنة على صدق مواقفه، والثاني وجد نفسه خلف الثورة بأزمان إذ لاصوت لهم إلا على صفحات التواصل الاجتماعي. وهو صوت ضائع في الفضاء لا أرض له.
الآن وبعد أن استمرت الرابطة على قيد الحياة لغاية هذه اللحظة. ما الذي حدث؟ هل هو حقاً خوف على مصلحة الشعب السوري الثائر؟ أم أن المثقف في واد والثورة في واد آخر؟ وهل يكفي أن تكتب قصيدة ثورية ليقال عنك إنك مع الثورة؟ لعل أخطر عبارة قيلت أثناء الثورة أن سلاح المبدع كلمته لكن ما قيمة الكلمة إن لم يعش المبدع التجربة على الأرض، لقد كتب تشي غيفارا قصائده وكُتبه وهو بين الناس يشاركهم الفقر والجوع والحصار ويقتسم معهم دموع الحزن وابتسامات الفرح في حين اختار المثقف السوري أمان المنافي عن مخاطر المقاومة الحقيقية، حتى وهو في المنفى الآمن لم يكلف نفسه عناء الاعتصام أو الاحتجاج أمام سفارة بلد مجرم، ومثلما استطاعت منظمات الإغاثة ربط المواطن السوري بسلة غذائية شهرية استطاعت وسائل الإعلام ربط الكثير من المبدعين بأجر الاستكتاب، ولم تعد المجازر والأهوال التي يتعرض لها الشعب السوري محط اهتمام إلا بالقدر الذي يمكن أن يدرّ بعض الحليب من ضروع البنوك.

لم تكن النخبة المثقفة يوما ما كتلة واحدة، ولم تكن صاحبة موقف موحد إلا إذا استثنينا الذين اختاروا الوقوف بجانب القتلة، أما على الضفة الثانية فقد اختلفت مواقف المثقفين بقدر اختلاف قادة الفصائل، ولذلك كان من اليسير جداً على عصابات الأسد أن تعمل بهدوء على تشويه صورة الثائر الحقيقي (سياسياً وثقافيا) مطمئنة إلى حالة الجهل والعماء التي تطال الكثيرين من ثوار مواقع التواصل الاجتماعي الذين يفتقرون إلى الدقة في تحري الحقائق.
لقد استطاعت الرابطة أن تبقى على قيد الحياة، بفضل بضعة أشخاص لكن أحدا منهم لم يكن يعلم أنها ولدت مشلولة وبقي الشلل يلازمها رغم المحاولات الكثيرة في تفعيلها، ولم ينلها من الشريحة المثقفة سوى التنظير عن بعد عبر صفحات الفيس واللوم والتقريع لأنها لم تتواصل مع أعضائها، هل كان المطلوب من سبعة أشخاص أن يرسلوا إلى بعض المتحصنين في أبراجهم برجاء المشاركة في عمل يخدم الثورة؟ أما لماذا لم يكلف غالبية أعضاء الرابطة أنفسهم عناء المبادرة للعمل ولو بإرسال بعض المقترحات البناءة فهذا في علم التربية. وإذا افترضنا أن أعضاء المكتب التنفيذي متشبثون بمناصبهم فلماذا صبر بقية الأعضاء ست سنوات على هذا الاستحواذ؟ ما معنى أن تستفيق جثث المثقفين فقط حين تهدد موقع الرئاسة، وما معنى أن يتبنوا كلام الرئيس بكل صدقه وأكاذيبه دون أن يسألوا الطرف الآخر مجرد سؤال عما يحدث؟ أم أن الاصطفافات المنفعية لها حكم آخر؟ وهل المضي خلف قيادته سيحقن دماء شعبنا ويمنح الحرية لوطننا المحتل؟ هل كان أعضاء المكتب التنفيذي حجر عثرة في طريق تحرر العقل السوري وعقبة كأداء في طريق ترسيخ قيم المدنية والحضارة للشعب السوري؟ إن النوم ست سنوات والبحث حتى في الأحلام عن مظلة إعلامية تضمن استكتاباً هنا وهناك يعكس أنانية هذا المثقف المتعالي والمنعزل عن واقعه. ليس هذا فحسب بل ويشكل فضيحة أخلاقية أن ينخرط كتاب وأدباء ومثقفون في الدفاع عن موقع الرئيس. مع ضرورة تسجيل فائق الاحترام لشخصيات ثقافية من داخل الرابطة ومن خارجها وجدوا بعض الحلول للعمل بما يمكن أن يسهم بشكل أو بآخر في أعظم ثورة في العصر الحديث. وما يؤسف له أن هؤلاء هم الاستثناء الذي يثبت القاعدة التي تؤكد أن المثقف أو المبدع يتثاقل عندما يطلب لعمل جماعي يخدم مجتمعه في حين يخف كريشة عندما يدعى لعمل (ثقافي) مأجور.
ملاحظة: كان من المفترض أن مصطلحات الثقافة والإبداع بين قوسين، لأننا نستخدمها بمجانية زائدة ونطلقهاعلى كل فرد أمسك بقلم أو ريشة. فنحن أمة لا تجيد غير صناعة الأصنام والرؤساء.

عبد الرحمن حلاق


تبدلات الرجال

عندما كنت أقرأ اسم فيلم (آخر الرجال في حلب) للمخرج السوري الشاب فراس فيّاض، كان يتوارد إلى ذهني مباشرة فيلم نور الشريف (آخر الرجال المحترمين) وسواء في فيلم فراس فياض أو فيلم نور الشريف فإنّ التّسمية تشير إلى من بقي وتشي بانعدام هذا النوع إثر هؤلاء الرجال. قادني ذلك للبحث عن الرجال الأوائل في هذه الثورة اليتيمة، الثورة المغدورة، الثورة التي بدأ الكثير من الناس بمحاولات التنصل منها والتّسليم بهزيمتها.
أعتقد أنّ أوائل الرجال كانوا أولئك الفتية الذين آمنوا بمفاهيم الحريّة والكرامة، وآمنوا بالتّظاهرات المسلحة بالورود وعبوات المياه، وكانت مطالبهم محصورة بدولة مدنية ديمقراطية وكانوا يغنون ويرقصون لوطن واحد وشعب واحد. هذه الفئة من الرجال كانت الأشد خطراً على نظام الاستبداد لذلك لم تدخر عصابات الأسد وسيلة إلا واتبعتها في سبيل زجهم في السجون أو قتلهم بأي طريقة، والمتابع الدقيق لسيرورة الثورة السورية يدرك بأقل جهد أنّ غالبية الذين قتلوا تحت التّعذيب كانوا من هذه الفئة، أمّا لماذا؟ فأعتقد أنّ الهدف ليس بأشخاصهم كأفراد وإنّما الهدف مجموعة القيم النبيلة التي يحملونها فهي الوحيدة الكفيلة بإحراج عصابات النّظام محلياً ودولياً ولذلك كان لابدّ من تصويرهم على أنّهم مجموعات إسلامية متطرفة! الشعب السوري لم يأخذ هذه الاتّهامات على محمل الجد؛ لأنّه يعرف مسبقاً أنّ عصابات الأسد تكذب، لكنّ عصابات النّظام المدججة بتواطؤ عالمي مسلح بأضخم آلة إعلامية عرفت كيف تُدخل الجماعات الإسلامية لتبرهن للعالم صدقيتها وليكتشف الشعب السوري هذه اللعبة فيما بعد.
عندما اشتدت مضخة العنف ظهرت على السطح الشريحة الثانية من الرجال وهذه الشريحة ولدت من رحم الشريحة الأولى وأعني بها أولئك الفتية الذين تصدوا للعمل الإغاثي، يجمعون علب الأدوية والعلاج من متبرعين في الداخل ويرسلونها للمنكوبين وظهرت في هذه الفترة ما يُسمى بتنسيقيات الأطباء، اعتبرت عصابات الأسد أنّ هذا العمل من أخطر الأعمال على ديمومة الحكم وكان المعتقل بتهمة تنسيقية أطباء يُرمى في معتقلات التّعذيب ولاينظر بأمره أبداً إلا بعد فترة زمنية قد تتجاوز السنة في حين أنّ المعتقل بسبب حمله السلاح كان يخرج من السجن في مدّة أقصاها ثلاثة أشهر. أمّا وجه الخطورة في هذه الشريحة فيتمثل بكون عملهم يُشكِّل تحدياً سافراً لعنجهية السلطة إذ كيف يساعدون جريحاً حاولت عصابة الأسد قتله؟ ترافق ذلك بكلِّ تأكيد مع المهل الزمنية المتكررة للنظام بحيث بات مطمئناً لوقوف العالم والجامعة العربية معه، مما مهد الطريق لتنامي عنجهيته واختراعه لوسائل تدميرية أبشع تمثلت بالبراميل المتفجرة والكيماوي والقصف بالصواريخ الباليستية أو قصف الطيران، وهذا بدوره مهد الطريق لظهور الشريحة الثالثة من الرجال الرائعين.
تمثلت الشريحة الثالثة بأولئك الفتية الذين نذروا حياتهم لإنقاذ حيوات البشر الذين تنهال على رؤوسهم البراميل والصواريخ وتتهدم بيوتهم فوقهم، أصحاب الخوذ البيضاء الذين يسارعون إلى التواجد في أمكنة القصف وقد تعرضوا هم أنفسهم أكثر من مرة للقصف فقد كانت عصابات الأسد تقصف المبنى ذاته مرتين تأتي المرة الثانية بعد الأولى بفترة قصيرة حيث يتراكض الناس إلى المبنى المدمر فيفاجئهم الطيار بصاروخ آخر ليضمن موت أكبر عدد من الناس. على هذا المنوال كان عمل الخوذ البيضاء ولأنّ عملهم محض إنساني فقد وجدوا من يدعمهم مادياً بحيث يضمنون استمرارية عمل هذه المنظمة، ومع تبيان الأدوار القذرة التي لعبتها الفصائل الإسلامية والتي كانت تخدم النظام من حيث تدري أو لاتدري، ومع اجتياح جبهة النصرة وأخوة المنهج لفصائل الجيش الحر وتصفيتها، لم يبقَ لعصابات الأسد من أعداء داخل الأراضي السورية غير منظمة الخوذ البيضاء فعملهم الإنساني لايصب مطلقاً في مصلحة هذه الزمرة المستبدة ولذلك لم توفر عصابات الأسد أدنى فرصة لتشويه صورتهم وقد ساعدها في ذلك كثير من أصحاب العقول القاصرة الذين ينتمون لشريحة (كنا عايشين) أو شريحة (ألم نقل لكم) وليس مستغرباً الآن ظهور بعض الأصوات التي تدين لجوء بعض أعضاء المنظمة إلى دولة الكيان الصهيوني كمرحلة عبور إلى خارج سوريا بعد أن احتلت عصابات الأسد المدعومة بالطيران الروسي والميليشيات الإيرانية مناطق واسعة في الجنوب السوري. ربما كان على السوريين الهاربين إلى إسرائيل الموت ذبحاً بالسكاكين الطائفية أو الموت بالتعذيب حتى يرضى أصحاب هذه الأصوات المنكرة والمستنكرة.
قد لا أتفق مع عبارة (الخوذ البيضاء آخر الرجال) فالشعب السوري الذي أنجبهم قادر على إنجاب المزيد منهم ولا يمكن لقوة على الأرض أن تكسر سنن التاريخ لكنهم في سيرورة الثورة يشكلون حقيقة أنهم آخر الرجال في هذه المرحلة، يحملون شرف الشعب السوري بين جوانحهم ويكفيهم شرفاً أنّ آلة عصابات الأسد الإعلامية لم تتوقف عن اتهامهم وشتمهم، ولاغرابة أن يخرج الإعلام الإسرائيلي ليؤازر عميله في دمشق ويدّعي أنّ عدد من رحلتهم إسرائيل إلى الأردن 800 رجلا، في حين أن من خرج منهم 260 رجلاً فقط.
الآن وقد استتبت الأمور لقوى الاحتلال المتعددة في سوريا، وصمت صوت السلاح وباتت الأمور قيد التحضير للنهايات التي ترسمها قوى الاحتلال. ترى ما الشريحة الجديدة من الرجال التي يمكن لهذه المرحلة أن تفرزها؟ أم أن صمت السلاح سيعيد الشريحة الأولى للظهور ثانية لكن بوعي مختلف وجديد هذه المرة؟

عبد الرحمن حلاق

شهموة الرئاسة

انزياح المعنى وتوالده ضمن هذا النسق الثقافي الذي شكل الوعي وبلور الشخصية حتى غدا بين المسلمات عند بني البشر جميعاً، أسهمت في تكريسه الأديان وكل المفكرين والفلاسفة والشعراء، انطلاقاً من كونه ضرورة تنسحق من خلالها الذوات المنقادة، قد يكون ضرورة بالفعل ضمن المفاهيم القبلية والمفاهيم العسكرية، وقد يكون ضرورة _على مضض_ في حقل السياسة شرط أن يكون الرئيس ضمن الحدود الدنيا من الصلاحيات كما هو معمول به في بعض الديمقراطيات العالمية، فالحكم في نهاية المطاف إدارة وليس رسالة أيديولوجية ويستطيع أي مجلس إدارة أن يقوم بكافة المهام والأعباء الموكلة إليه، بغض النظر عن وجود مدير عام أو رئيس. أما أن ينسحب المعنى الرئاسي على منظمات حزبية أو اجتماعية أو ثقافية فهذا ما يجب أن يعاد النظر فيه جملة وتفصيلاً إن كنا نؤمن بأهمية العمل الديمقراطي ونجلّ مكانة العقل الإنساني، فالسياق التاريخي الذي أنجب شيخ القبيلة أو زعيمها أضحى بعيداً جداً ونحن نعيش الألفية الثالثة ألفية العولمة والقرية الواحدة التي أنجبت لنا ما يشبه الحكومة الواحدة للعالم أجمع، وأقول الحكومة الواحدة ليس انطلاقاً من نظرية المؤامرة بل من واقع اتحاد العالم أجمع ضد حرية شعب طالب بحريته حيث يتناغم الإعلام العالمي مع السياسات العالمية بصورة لا مثيل لها في التاريخ.
                                                                           عبد الرحمن حلاق

من الفتوى إلى الترقيع


عندما انتشر على صفحات التواصل رسمٌ كاريكاتوري لامرأة ترمز للثورة السورية وفي ظهرها عشرات السكاكين تمثل طعنات الغدر من الدول والفصائل المختلفة نسي الرسام أن يضيف سكيناً يكتب عليها (الشرعي). فهذه الشخصية لعبت دوراً تدميرياً للثورة السورية يحقق بصورة واضحة مقولة الغزالي: لا أخطر على الإسلام من مسلم جاهل. وقد تجسد هذا المسلم الجاهل خير تجسيد في دور هذا الشرعي الذي توالد مع الفصائل توالد الفئران في مخازن الطعام. فأعطى صورة بائسة جداً عن الإسلام كدين وساهم في هزيمة الثورة مساهمة فعالة. فكيف ولد الشرعي؟ وكيف امتطى ظهر الثورة؟ ومن مكّنه من ذلك؟
بعد انتهاء المرحلة السلمية من الثورة السورية وبدايات ظهور الكتائب المسلحة التي بدأت تفرض سطوتها رويداً رويداً على المناطق التي تخرج عن سيطرة النظام، بدأت الحاجة ملحة لحل المشكلات الجديدة، ومع تغييب الجيل الأول من الثوار أصحاب الفكر المدني وإخراجهم من المشهد إما عن طريق النظام أو عن طريق أصحاب الفكر الديني لم يبق إلا أئمة المساجد وبعض المتدينين، في هذه المرحلة ولد الشرعي الذي بدأ يفتي في أمور الجهاد والغنائم وبقية أمور الحياة، ومع تدفق المال وتدفق المهاجرين تدفق إلى الساحة أيضاً عدد كبير من الدعاة والشرعيين، ومع نمو الكتائب إلى فصائل وألوية وجيوش وفيالق كان كثير من الشرعيين الصغار يكبرون مع قادتهم، وبدلاً من أن يوجهوا أعداد قليلة صاروا يوجهون آلاف المقاتلين.
أجابني أحد المقاتلين عندما سألته لماذا تركت القتال فقال: كنت مرابطاً مع مجموعة من الشباب بانتظار لحظة الهجوم لكن قائد الكتيبة بقي يؤخر هذه اللحظة بانتظار مجيء الشرعي (أبو هريرة) ليلقي كلمة بالمقاتلين وقد طال انتظاره كثيراً ولما حضر ورأيته انهارت في ذهني الصورة التي ركبها خيالي له فقد كان شاباً لا يتجاوز من العمر الثامنة عشر حتى أن لحيته لم تكتمل بعد، عندئذ تركت لقائد الكتيبة بارودتي وقلت له : لم تعد هذه المعركة معركتي.
تلخص هذه القصة نوعية الشرعي وفقره العلمي بالمهمة الموكلة له خاصة وأنه مع ازدياد الفصائل وازدياد أعداد المقاتلين صارت الحاجة ماسة لازدياد أعداد الشرعيين ولذلك صار الشخص يخضع لدورة شرعية مدتها لا تزيد عن ثلاثة أشهر ليصبح بعدها من أصحاب الحل والعقد، وقد أسهم دخول الأجانب بتكريس هذه الشخصية بشكل فعال خاصة وأن عدداً لا بأس فيه منهم كان له تجاربه الخاصة في أفغانستان والعراق وله معارف كثر من الداعمين في الخليج وغالبيتهم العظمى أخذ علمه من دورة سريعة أو في السجن عند شيخ سجين كأبي اليقظان المصري الذي أفتى لعناصر النصرة بقتل عناصر أحرار الشام بطلقة في الرأس. أما الدارسون المتخصصون فلا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة.
لقد كانت ولادة الشرعي نتاج فكر ديني استشعرَ حاجة بسطاء الناس للفتوى ولعبَ على المشاعر الدينية عندهم، خاصة وأن شعارات الثورة قد تم استبدالها من حرية وكرامة إلى (نصرة دين الله) ولذلك أخذ هذا الشرعي مكانته بين الناس فصار يوجه المجاهدين ويحل ويربط في مشاكل الناس ويسهم في استبعاد حتى الحقوقيين وأهل القانون وشكلوا دور قضاء خاصة بعيداً عما يسمونه بالقانون الوضعي، ولأنهم في غالبيتهم ليسوا من أصحاب الاختصاص فقد انضووا تحت إمرة قائد الفصيل وكرسوا مفاهيم الولاء الأعمى لأمير الجماعة وبدؤوا بتحريم ما يحرمه الأمير وتحليل ما يحله، وبذلك ضمن الكثير منهم مواقعهم لدى القادة والأمراء فقتال أخوة المنهج حرام وقتال أفراد الشعب حلال، وعند المواجهة بين الفصيلين فكلاهما مفسد في الأرض حتى غدا الشعب السوري كله متهماً بالردة وكفرت الفصائل بعضها بعضاً، وبذلك خُلقت البيئة التي أرادها بشار الأسد تماماً والتي من خلالها يستطيع أن يبرهن للعالم أنه يقاتل إرهابيين، وقد مكنه ذلك من القضاء على ما سماه الحاضنة الشعبية للإرهاب فقتل ما يزيد عن المليون إنسان وهدم بيوتهم وشرد لا يقل عن عشرة ملايين مواطن دون أن يطلق رصاصة واحدة على جبهة النصرة أو يلقي برميلاً متفجراً على أحد مقرات داعش، لقد تخلص بشار الأسد من عدوه الحقيقي (الشعب السوري) بفضل السياسات الفصائلية. والتي لعب فيها الشرعيون دوراً لا يستطيع أحد نكرانه ولم يتراجع هذا الدور إلا في فترة متأخرة عندما بدأت الفصائل تكبر وتقوى وتختلف وهنا اقتصر دور الكثير من الشرعيين على فض الخلافات والتوفيق بين المختلفين، وإذا كانت جبهة النصرة في بدايتها قد أعطت أذنا صاغية للهيئة الشرعية بهدف كسب الحاضنة الشعبية فإنها اليوم تعتبر أن مهمة الشرعيين ودورهم ينحصران فقط في (الترقيع والتبعية لأمير الجماعة) هكذا بالحرف كما ورد على لسان المغيرة أمير قاطع إدلب في إحدى التسريبات المسجلة التي ينصح فيها (أبا طلحة سفيرة) أمير البادية الشمالي ببناء نواة صلبة كجيش النصرة قاطع إدلب ذو الولاء الأعمى للمغيرة يوالي من يواليه ويعادي من يعاديه.
بذلك يكون الشرعي قد لعب دور المحلل لقادات الفصائل الذين تحولوا إلى أمراء حرب وزعماء عصابات لا أكثر. وما عليه سوى أن يرقع لهم أخطاءهم ويحلل لهم جرائمهم.
عبد الرحمن حلاق

https://www.syria.tv/content/%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%AA%D9%88%D9%89-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D9%82%D9%8A%D8%B9

الاستعارة والانحرافات المعرفية ـ قراءة في رواية فواز حداد تفسير اللاشيء

  في السرد الروائي نجد أنفسنا أمام مجموعة من الصور الكلية التي تصنع استعارات بلاغية مختلفة في الشكل عن المفهوم البلاغي المتعارف عليه في ك...