الأربعاء، 20 مايو 2020

شخصيات "مدن اليمام " بين السموّ والوضاعة


عبد الرحمن حلاق
شخصيات "مدن اليمام " بين السموّ والوضاعة

قراءة في رواية " مدن اليمام " للكاتبة السورية إبتسام تريسي

تشكل الثورة حدثاً استثنائياً في تاريخ الشعوب فهي صرخة الـ (نحن) في وجه ذاتها، هذه الصرخة التي قد لا تحدث إلا لمرة واحدة كل عدة قرون، ولا تحدث إلا ضد الظلم والفساد المستفحلين في بنية المجتمع الثائر، ولذا فهي مختلفة كلياً عن ثورات التحرر فهذه الثورات تبقى صرخة في وجه الآخر الغريب المحتل. وفي حين تبقى ثورات التحرر ذات تأثير طفيف على المجتمعات المحيطة، فإن الثورة على الذات تبقى مثالاً يحتذى على صعيد العالم وتبقى دوائر تأثيرها تموج في المحيط فترة زمنية طويلة.
وإذا كانت ثورات التحرر قد حازت على انتباه الكتاب والأدباء ردحاً من الزمن فإن الثورة على الذات تستمر أمداً أطول بكثير من حيث كونها مادة ثرية لمختلف صنوف الإبداع، وما نزال حتى يومنا هذا نجد الكثير ممن يتناولون الثورة الفرنسية بالكتابة على طول العهد بها.
على صعيد الثورة السورية نستطيع القول إنها ماتزال في بدايتها رغم مرور أربع سنوات عليها، ورغم ذلك انبرت عدة أقلام لمواكبة الحدث العظيم هذا، منها ما كان يعيش الحدث في الداخل، ومنها ما كان يعيشه وهو في الخارج. من قلب الحدث تطل علينا إبتسام تريسي بروايتها (مدن اليمام) ليس ككاتبة تراقب ما يحدث لتكتب ولكن كامرأة تشارك في صنع ما يحدث وتعيش لحظات سموه ولحظات ألمه، وتراقب عن كثب تحولاته وانزياحاته، تحلق مع شعارات الحرية وتتألم من رصاص المستبد. ثم تقدم لنا وبأسلوب أدبي أنيق ولغة رشيقة روايتها التي تتناول من ضمن ما تتناوله فكرة استغلال المستبد لأبشع نوازع الشرّ في الإنسان ، ومقدرة المستبد على توظيف بعض القناعات الباطنية لتربية جيش من المنتفعين والقتلة يحفظ له بقاءه على كرسي الحكم، وفي المقابل يمكن أن نتلمس من خلال تطورات الخط الدرامي للأحداث عظمة شعب وهو يقاوم البطش والدمار، يقاوم محاولات المستبد لتطييف الشعب وتقسيمه، وإرغامه على الابتعاد عن كل ما هو سلمي مدني إنساني، نتلمس كذلك عظمة شعب يسعى للعيش في ظروف إنسانية سليمة لا تمت بصلة للتمايزات الدينية أو المذهبية أو العرقية.
تتوقف الرواية عند السنة الأولى من عمر الثورة السورية. بذلك يمكن القول إن الرواية ترصد بدايات تشكل الثورة خاصة في مرحلتها السلمية. عندما كانت قوات المستبد السوري تستبيح دماء المتظاهرين ونشطاء الإغاثة.
ولأن الرواية تتناول الحدث من داخله كان لابد للراوي أن يكون شخصية مشاركة في الحدث، وكي لا تقع في مطبات المباشرة والتسجيلية اعتمدت الكاتبة ثلاثة رواة لكل دوره حسب موقعه، وجميعهم مشاركون في الحدث (الأم ـ حنظلة ـ نورس) هذه الآلية أسهمت وبشكل كبير تغطية شاملة للمكان وأعطت أفضلية متقاربة للشخصيات خاصة وأن هكذا حدث لا يتضمن بطولة فردية، فالبطل هنا وفي الثورة هم الجموع، لذلك شكلت شخصيات الرواية مجموعة دوال هامة يتضمن كل منها معناه الذي يسهم ببناء معمارية النص ـ الحدث.
من هذا المنطلق تأتي دراسة الشخصية في مدن اليمام على جانب من الأهمية بمكان. خاصة وأن الزمن في مدن اليمام مؤطر بالحدث، والحدث وإن كان منتظماً برحلة بحث الأم عن ابنها الناشط والمعتقل فيما بعد إلا أن هذه الحكاية تتولد منها حكايات وتتناسل قصص تروي بطولة مكان قرر أن يستعيد وجهه الحقيقي الوجه المشرق لأبنائه.
لهذا كله ارتأيت أن أتناول الشخصية كونها أحد أهم مكونات العمل الروائي إذ لا يستقيم حدث دون وجود من يقوم به فعلى عاتق الشخصية الروائية تنهض الأحداث وعلى عاتقها أيضاً ينهض النص بمجمله.
بداية لن نجد في هذه الرواية شخصية رئيسة وأخرى ثانوية فالنص أقرب إلى الملحمة منه إلى الرواية الفارق أن البطل الملحمي يقود الجموع في سلسلة مواجهات الغاية النهائية منها ترسيخ القيم الأخلاقية التي ينادي بها المجموع وبالتالي فهو يعبر عن مشاعر المجموع وطموحاته في بناء أمة، بينما نجد في مدن اليمام أن هذا المجموع لم يسلم قياده لفرد بل تولى بذاته المواجهة ما جعل الحدث الروائي فيها يقتصر على حالة صراع بين الخير والشر، صراع شعب ثائر لأجل حريته وكرامته يتصدى له المستبد بكل ما يملك من عصابات مستفيدة ومنتفعة من وجوده، يمدها بكل أسباب القوة، هذا الحدث حتم ظهور شخصيات عديدة ومتنوعة وموزعة على مساحة واسعة، وفي الوقت ذاته تتساوى إلى حد ما في الظهور، وكثير منها لا يتعدى ظهوره مساحة دور صغير في حكاية أو حدث، هذا التنوع وهذه التعددية جعل من البنى الحكائية تتناسل وتتوالى على امتداد النص الروائي، وفي معظم هذه الأحداث نرى أن الناظم بينها إما شخصية الراوي أو المكان ذاته وفي مجملها تعكس أكبر قدر من هذا الصراع بين القبح والجمال، بين الشرف والوضاعة، بين الخير والشر، وعلى وجه الخصوص بين الحرية والاستعباد.
وبغية تناول الشخصيات في مدن اليمام سأحاول الارتكاز على ما توصل إليه فيليب هامون في دراسته حول الشخصية الروائية حيث يحدد ثلاثة محاور لدراسة الشخصية تتمثل في (مدلول الشخصية ـ مستويات وصف الشخصية ـ دال الشخصية) وذلك في ضوء تحليل الشخصية الروائية: " بوصفها وحدة دلالية قابلة للتحليل والوصف أي من حيث هي دال ومدلول، وليس كمعطى قبلي وثابت "[1]  وتتأتى وظيفتها الأدبية " حين يحتكم الناقد إلى المقاييس الثقافية والجمالية "[2]
وبناء عليه يصنف هامون الشخصية الروائية إلى ثلاث فئات: (المرجعية ـ الواصلة ـ التكرارية)
1 ـ الشخصيات المرجعية: وهي شخصيات تحمل علامة مرجعية وإحالية ( تحيل على معنى ممتلئ وثابت، حددته ثقافة ما. وباندماج هذه الشخصيات داخل ملفوظ معين، فإنها ستشتغل كإرساء مرجعي يحيل على النص الكبير للإيديولوجيا أو الثقافة. إنها ضمان لما يسميه بارت بأثر الواقعي.[3] من أهم هذه الشخصيات في مدن اليمام تأتي شخصية حنظلة الشخصية الشهيرة التي أنتجها الفنان الفلسطيني ناجي العلي، وغير خافٍ على أحد مدلول هذه الشخصية بأبعادها الثقافية والنضالية التي تتسم بأرقى سمات الكفاح السلمي إذ تعتمد الكلمة والرسم سلاحها في وجه الشرور الواقعة على الإنسان بالمطلق. وقد أضافت الكاتبة لهذه الشخصية مستويات جديدة بأن أنسنتها ومنحتها دوراً هاماً في تقصي الحقائق. تتسلل شخصية حنظلة من خلال الأوراق إلى عالم الفيس بوك وتنشئ صفحة سرية تضيف إليها شخصية الأم فقط. ومن خلال هذه الصفحة سيكمل حنظلة رواية أحداث في مناطق لا يمكن لشخصية الأم أن تتواجد فيها إنها تقنية الكاتبة في التعويض عن الراوي العليم واستبداله براوٍ مشارك في الحدث. نراه بداية في جسر الشغور ثم في حماه وبعد ذلك حمص وأخيراً في دمشق، يرصد وينقل الأحداث يسبح في الزمن من خلال تقنية الاسترجاع فينقل لنا بعضاً مما جرى في حماه في ثمانينات القرن الماضي، ثم يعود إلى الحاضر ليعتقل ويكمل رويه بما يعيشه ويراه. كذلك تتسم هذه الشخصية ببعض سمات الشخصية التكرارية، خاصة فيما يتعلق بنقل الأخبار، وحياكة الاستدعاء والتذكير ضمن النسيج العام للرواية، وفيما يتعلق بالشخصيات التكرارية فإن (مرجعية النسق الخاص للعمل وحدها كافية لتحديد هويتها، فهذه الشخصيات تقوم داخل الملفوظ بنسج شبكة من الاستدعاء والتذكير ووظيفتها وظيفة تنظيمية وترابطية بالأساس، إنها علامات تشحذ ذاكرة القارئ)[4]. يشترك حنظلة في ذلك مع الشخصية الأساس في الرواية ( شخصية الأم ) وفي الحديث عنها يمكن القول أن هذه الشخصية تشكل محوراً أساسياً في الرواية فمن حيث كونها مدلول تحيل إلى تلك المرأة التي لا همّ لها سوى الحفاظ على سلامة ابنها ونجاحه وتتسم بخوف دائم عليه أما من حيث مستويات الوصف فهي أيضاً شخصية مناضلة ولا تستطيع إلا أن تكون مع الجموع الثائرة على الظلم، أما من حيث البناء الروائي فهي من تخلق خطوط الحكاية وهي الراوي الرئيس لها ومن خلالها حصراً يحضر الراوي الثاني حنظلة وكذلك الراوي الثالث نورس، إنها أشبه بمخرج درامي تأسره الأحداث وتحركه بدلاً من أن يقوم هو بتحريكها فلا يمتلك غير الإمساك بالكاميرة ليلتقط أهم ما يراه. وبدافع من قيمه الإنسانية ينخرط طواعية بالحدث العام، تبدأ الحكاية برؤيا تبعث على القلق والخوف وهي التي تخاف من أي منام تراه إذ سرعان ما يتحقق.
تجلس مع طفلها على صخرة وسط مياه الشاطئ تلاعبه ويشير إلى سمكة ملونة جميلة وهو يضحك وبلحظة تتقدم موجة هائجة تغمره ليختفي لحظات عن عينيها.
تدرك هذه الأم الآن أن طفلها الذي كبر لن يقف موقفاً حيادياً في ثورة شعب انطلقت، خاصة وأنه في سنته الجامعية الأخيرة في العاصمة دمشق حيث بدأت الأحداث تتصاعد، تماماً مثلما أنها هي أيضاً لن تستطيع الوقوف موقف المتفرج مما يحدث وهي ابنة مدينة عانت ما عانت في مطلع الثمانينات من المستبد ذاته. وإذ تسافر إلى دمشق لتلتقي بولدها تتعرف على أبي سعيد الفلسطيني الذي يهبها بعضاً من تاريخه الشخصي على شكل دفتر ومجموعة أوراق خاصة تحكي رحلة أبيه في التشرد والنزوح (حيث طلبت الأوراق بدافع فضول الكتابة فهي في الرواية ليست أماً وفقط بل كاتبة أيضاً) وتكتشف بين الأوراق رسماً لم ينشر من قبل لناجي العلي يصور فيه شخصية حنظلة.
إن شخصيات الرواية يمكن تقسيمها إلى فئتين وحسب. (الشخصيات الثائرة والشخصيات القامعة للثورة أو أدوات المستبد في القمع). فبالإضافة لشخصية الأم وشخصية حنظلة نجد الشخصيات التالية والتي تلعب دوراً بارزاً في تكوين النص الروائي:
نور :
ويعد الاسم بداية دالاً مرجعياً يحيل إلى كل ما هو مضيء على المستوى الإنساني وهو طالب جامعي فاجأته الثورة قبيل تخرجه يحمل في داخله عذابات جده وأخواله أيام أحداث الثمانينات يعيش في مخيم اليرموك، ينشط منذ الأيام الأولى للثورة في المظاهرات السلمية وعندما يشتد القمع يتحول مع مجموعة من أصدقائه للعمل الإغاثي يعتقل أول مرة ويخرج ليعتقل ثانية، لا نرى لهذه الشخصية حضوراً مباشراً في الحدث إلا في بعض مفاصل الرواية لكننا نكتشف في رحلة أمه الثانية إلى دمشق عندما اعتقل للمرة الثانية أنه أحد الشخصيات المؤثرة والفاعلة جداً في وسطه لدرجة أن أمه أحست أن كل من في دمشق يعرفه (صرت أنتبه حتى إلى أشجار الطريق، فتقول لي همساً إنها تعرفه، وقد مر بها يوماً، ومست أصابعه لحاءها بحنان! هو هنا في كل مكان في دمشق.. الأزقة والشوارع ووجوه العابرين.)[5]
يأتي هذا المقبوس على لسان أمه بعد أن تكتشف وهي في خضم العمل الإغاثي أن كل من التقتهم يعرفون نور لهذا كتبت في الإهداء (كان نوراً لي فقط، وصار نوراً لمئات الأصدقاء الأحرار.. كان ابني، وأصبح ابن سوريا.. ابن الشمس.. يمتلكه السوريون.. يستبدلون صورته بصورهم الشخصية على الفيس بوك.. يكتبون عنه.. يحبونه مثلي، وربما أكثر.. )[6]
نورس:
من أصدقاء نور في النشاط السلمي للثورة، مخرج سينمائي (وهذه بحد ذاتها علامة مرجعية) يعتقل في المطار وهو يحاول تهريب فيلمه الذي صنعه عن الدكتاتور، يساهم بدور فعال في روي الحدث من داخل المعتقلات التي تنقل بينها بدءاً في دمشق وانتهاءً في سجن حلب المركزي، من خلاله نكتشف الدور العظيم للأم وهي تتابع قضيته مع المحامي وتزوره في السجن، كذلك يسهم نورس في ترسيخ الرؤية الفكرية للرواية من خلال البعد الإنساني الذي يطرحه.
أما باقي الشخصيات المنضوية تحت علم الثورة فتبرز الوجه المشرق لشعب قرر أن ينال حريته، هذا الوجه الذي لا يمكن وصفه بغير كلمة (سوري) حيث نجد في مجموعة العمل الإغاثي شخصيات تمثل معظم الطوائف السورية جمعهم نداء الحرية وعزز صداقتهم العمل على تأمين الكساء والغذاء والدواء لضحايا القمع الأسدي.
في الجانب الآخر تتحرك عدة شخصيات مختلفة الدوافع والأسباب لكنها تتفق جميعاً في محاربة كل من ثار على المستبد حرباً لا هوادة فيها مستخدمة أبشع صور القتل والإجرام وأبشع أنواع الانحطاط الأخلاقي بعضها دفاعاً عن مكاسبه وطمعاً بالمزيد وبعضها ناجم عن إيمان عميق أوجدته تربية خاصة تخلو من أي وجود لأي وازع أخلاقي أو ديني أو فكري إنها شخصيات تمثل أدنى مستويات الوضاعة التي عرفتها البشرية، لذلك كان من البدهي أن تحارب نقيضها بلا هوادة. وسأتوقف عند شخصيتين اثنتين منهما:
ست الحسن :
شخصية معقدة منحتها الكاتبة كثافة سيكولوجية خاصة بحيث عادت بها إلى مرحلة ولادتها لأم هربت مع عشيقها وأمضت عمرها تعمل في خدمة البيوت في ظل غياب زوجها الدائم أما الأب الحقيقي لهذه الطفلة فهو من يفترض أن يكون عمها. فنحن أمام طفلة نشأت بداية في أسرة منحلة أخلاقياً ونتيجة غياب الأب وتحت ضغط الحاجة المادية فقد كانت الصغيرة تتدبر أمورها بطرق خاصة كأن تحصل على حذاء أو ثوب من بائع بعد أن تسمح له ببعض الاستمتاع بها وقد يحدث كثيراً أن يستمتع بها بائع ما ثم يطردها بلا أي مقابل، وعندما نضج جسدها بدأت تفكر بالانتقام من المجتمع كله ومن الرجال على وجه الخصوص فأنشأت علاقات مميزة مع رجال الأمن والمسؤولين وبدأت رحلة الإثراء ومع بداية الثورة نجدها في معمل السكر في جسر الشغور مع الضابط المسؤول عن قمع المتظاهرين، حيث تم اقتياد عدد من الفتيات إلى داخل المعمل وهناك تنتقم منهن على طريقتها الخاصة، كذلك نراها على شاشة التلفزيون السوري مع اثنتين من فصيلتها وقد تحجبن وبدأن بفبركة قصص الاغتصاب المزعومة لتشويه وجه الثوار. ست الحسن نموذج للمرأة السادية التي استعان بها المستبد كإحدى أدواته في قمع الثورة، وتزداد شراستها كلما اصطدمت بالنموذج المعاكس الذي يذكرها بوضاعة أصلها، فإحدى المعتقلات في معمل السكر عندما أحست أن هذه المرأة ستتلذذ بإهانتها وهتك عرضها وقفت وبصقت في وجهها ثم رمت بنفسها في المرجل الذي يغلي فيه ماء السكر.
 (عبد السلام) الملقب بالخضر:
عندما كان يأخذ بعضاً من صيد رفاقه ويعود إلى البيت كانت جدته تقول له (شاطر يا ولد، لم يخب ظني فيك، أنت أمهر من فرقاطة)[7] والفرقاطة اسم لطائر يطير فوق الماء بسرعة ولا يجيد الغوص أو التعامل مع الماء يعرف بـ"قرصان الهواء" لبراعته في خطف الفرائس التي تصطادها الطيور الأخرى.
وتمثل هذه الشخصية إحدى أقذر أدوات المستبد في قمع الثورة، إذ يؤمن عبد السلام إيماناً كلياً بأن الموت في سبيل الرئيس هو الغاية الأسمى في الوجود، حتى أنه يعنف نفسه كثيراً عندما توسوس له ولو بمجرد خاطر بغير ذلك، وبحكم تربيته المنعزلة في منطقة جبلية، وعدم تلقيه أي تعليم نراه يمتلك قدرات جسدية مميزة واندفاعاً غرائزياً غير مقيد بأي وازع على الإطلاق، لقد أسهمت هذه التربية الخاصة إضافة لما تلقاه من تعاليم أثناء خدمته العسكرية في تكوين عقيدة خاصة. تجعله يستبسل في القتال دفاعاً عنها وفي الوقت ذاته يستغرب لماذا رمت يمامة نفسها على منحدر صخري قاتل لحظة محاولته اغتصابها، لقد خلقت منه هذه العقيدة وحشاً لا يعرف غير القتل واللواطة ولا يتردد مطلقاً بقتل طفل ثم التمتع بمؤخرته. يشترك في هذه العقيدة مع شخصية أخرى (الملازم خضر) الذي تم تكليفه بنقل البنات المعتقلات إلى معمل السكر في جسر الشغور حيث يصل الأمر عند هذا الملازم حداً جنونياً في القتل والاغتصاب لدرجة أن وقع أسير شهوة القتل فبدأ يطلق النار حتى على رفاقه الأمر الذي أدى إلى مقتله، ذلك بعد أن كان قد أوقف سيارة على الطريق العام فيها شاب وفتاة فأردى الشاب بطلقة ثم التفت إلى الفتاة فمزق ثيابها وذبحها ثم اغتصب الجثة وأكمل جنونه بأن أمسك سكيناً وبدأ يرسم بها خطوطاً على جسد الفتاة. إنه شكل من أشكال الاستذءاب الذي لم يره من قبل علماء النفس وإلا ما كانوا اقتصروه على المضطربين عقلياً، إنه خلل جيني يعيد الإنسان ـ عبر تربية محددة ـ إلى حالة ذئبية خاصة.
إذاً نحن أمام رواية تسعى جاهدة لتفكيك وتحليل هذه الرغبات الجامحة وغير المسبوقة في القتل والاغتصاب وقهر الإنسان من خلال تسليط الضوء على سلوك الشخصية تارة وعلى كثافتها السيكولوجية تارة أخرى، وبذلك تشكل هذه الرواية خطوة أولى في مقاربة هذه البنية الاجتماعية المغلقة بغية كشفها بشكل واضح خاصة بعد أن كشرت عن أنيابها بصورة قاتلة إنها بنية الاستبداد والشرائح الاجتماعية المنتفعة منه والتي تشكل له حاضنة اجتماعية تطيل من أمده على حساب دماء بريئة.
----------------------------------------------------
"مدن اليمام " رواية للكاتبة إبتسام تريسي
مكتبة الدار العربية للكتاب ـ القاهرة ـ ط1 ـ 2014
=================================  ============
·        مجلة أوراق الصادرة عن رابطة الكتاب السوريين العدد الخامس.


[1] ـ صـ 213 حسن بحراوي  ـ بنية الشكل الروائي ـ المركز الثقافي العربي 2009
[2] ـ صـ 221 نفسه
[3] ـ صـ 321 نفسه
[4] ـ صـ 223 نفسه
[5] ـ  مدن اليمام إبتسام تريسي صـ 297
[6] ـ مدن اليمام إبتسام تريسي صـ 7
[7] ـ مدن اليمام إبتسام تريسي صـ 34

الاستعارة والانحرافات المعرفية ـ قراءة في رواية فواز حداد تفسير اللاشيء

  في السرد الروائي نجد أنفسنا أمام مجموعة من الصور الكلية التي تصنع استعارات بلاغية مختلفة في الشكل عن المفهوم البلاغي المتعارف عليه في ك...