الأربعاء، 3 فبراير 2021

أساطير الجمال في رواية " كتاب الظل"

 

أساطير الجمال في رواية كتاب الظل

للروائية السورية إبتسام تريسي.

 


في تعليقه على مواقع التواصل، وهو يبارك صدور رواية "سلم إلى السماء" كتب الروائي فواز حداد: (دائما مبروك، ودائما إلى الأمام، أنت ترسمين اقدار الرواية السورية.)

ومنذ صدور روايتها الأولى "جبل السماق) صرح الروائي نهاد سيريس بقوله: ( مذ طبعت جبل السماق وأنا أراهن على هذا الحصان).

والدافع لذكر هاتين الشهادتين من روائيين لهما منزلة عالية في الوسط الثقافي في سوريا يكمن فيما قدّمته الروائية إبتسام تريسي في روايتها الأخيرة (كتاب الظل) من إنجاز يختلف في موضوعه كلياً عمّا قدّمه المنجز الروائي العربي عموماً _على الأقل ضمن ما اطلعت عليه_ فقد خلقت في روايتها الأخيرة مجموعة من الأساطير المدهشة في عوالم الجمال، تتكئ في مجموعها على مفاهيم (الحب والعطر والورود والموسيقا) كاشفة الوشائج العميقة بين أرواح شخصيات الرواية وأرواح النباتات والأزهار وحتى الأحجار. وذلك في إطار مكاني شاسع يمتد من الصين واليابان وصولاً إلى فرنسا وإيطاليا مروراً بعدد من الدول العربية في المشرق والمغرب، حيث يطارد تاجر العطور عبد الحي "معنى الورد" يريد الوصول إليه وتطارد العرافة تيلا "سليلات العطر" تريد جمعهن في محمية نسوية خاصة تُنشئها لهذا الغرض وسط الجبال الإسبانية. وتطارد تيلا (الأخت الصغرى) أسطورتها الخاصة حيث تتواطأ معها الأقدار في ذلك.

بعد الانتهاء من قراءة الرواية سيجد القارئ نفسه يتساءل ويعيد تركيب الحكاية أركيولوجيا ثم سيتمعن قليلاً بمجموع الأساطير التي تمثلت كلٌ منها على شكل امرأة لا يمكن الوصول إلى روحها إلا عبر معرفة كل الأسرار المتعلقة بواحدة من الورود بعينها. وسيجد القارئ نفسه أمام اثنتي عشر امرأة تقمّصت كل منهن روح وردة من الورود، توزعت النسوة على امتداد بقعة جغرافية موزعة في ثلاث قارات. ومع أن كل واحدة منهن تمثل أسطورة بعينها لكن الذي يمنح هذه الأسطورة امتدادها رجل واحد (الفتى الباحث عن معنى الورد) حكمت عليه إحدى العرافات بقولها:

(أمامك طريق فيه اثنا عشر كوكباً، ستقضي ليلة واحدة مع نساء يحملن روح الأرض في جيناتهن، وكلما تدفق ماؤك في رحم امرأة زرعت فيها شتلة عطر وأصبحت محرمة عليك.. وستبقى في بحث دائم عن امرأة تنجب لك ذكراً يستمر به نسلك، لكنك لن تحصد إلا الريح والبنات!) صـ231

ومع تنامي الحدث تمضي الأسطورة قدماً نحو الاكتمال عبر عرافة جديدة تبحث عن أبيها الذي يشكل أيضاً إحدى تفرعات الأسطورة، لكنها تلتقي الفتى الباحث عن معنى الورد وتعشقه إلا أن الأقدار جعلته محرماً عليها، يمنحها أسراره وتراتيله الخاصة قبل الموت فتكمل طريقها للبحث عن (سليلات العطر) اللواتي ولدن من أولئك النسوة لتتمكن أخيراً من جمعهن جميعا في محمية خاصة وسط جبال إسبانيا. ضمن نظام محدد وتراتبية محترمة وتتميز كل واحدة منهن أنها ورثت عن أمها روح الوردة فجعلتها محور حياتها علمياً وعملياً. مع اقتراب موعد تتويج تيلا الصغيرة الحاملة للرقم 12 عرافة للمحمية بعد أن تعلمت فنون أخواتها جميعاً وأضافت لكل منهن علماً جديداً، وجعلت المحمية تكتمل من حيث البناء والمعنى نراها تقرر أن تتماهى مع روح والدها فتمنح الأسطورة معنى جديداً للحياة غير ما أرادته العرافة تيلا.

ومن خلال هذه الإضاءة نتبين أصالة هذا الموضوع الجديد كلياً على الأدب العربي، وإذا كانت مخيلة الكاتبة قد استطاعت خلق الأحداث إلا أنها كانت في منتهى الواقعية في تعاملها مع المكان وفي تعاطيها مع المعلومات الغنية الواردة في التفاصيل حول الورود وفنون التطريز والأحداث التاريخية المصاحبة زمنياً زمن الحدث الروائي.

في البحث عن المعنى أنت بحاجة للمعاينة الحسية التي تمنح الإنسان تصوراً ذهنياً وكذلك بحاجة لقوة تعبيرية تصوغه في كلمات . وإذا كانت المعاني المعاشة قد تجلت واضحة لغوياً في بعض وجوهها إلا أنها في وجوه أخرى تلجأ إلى الاستعارة لتعبر عنها، كأن نتحدث عن الزمن بلغة المال أو الحب بلغة السفر على سبيل المثال. فإذا أردنا أن نرتقي قليلاً وشاركنا عبد الحي شغفه بالبحث عن معنى العطر في الورد فإننا قد نكتفي بالتقاط المعنى خلال لحظة النيرفانا التي تتوج التجربة. فهو يبحث عن المعنى ليعيشه وليشبع فضوله، ليس معنياً بتقديمه للعالم على طبق من كلمات، كذلك فعلت العرافة تيلا التي اشتركت مع نساء المحمية بخاصية النفور من مشاكل العالم وحروبه المستمرة، فأرادت صنع جنة خاصة، وهي إذ تدرك حتمية موتها تدرك أيضاً ضرورة استمرارية هذه الجنة عبر تيلا ( الصغيرة) فأرادت لها اجتياز اختباراتها الصعبة وسمحت لها بقراءة كتاب الظل الذي دونت فيه كل ما تعرفه عن عبد الحي ونسائه الموزعات جهات الأرض وأيضا كل ما تعرفه عن بناته اللائي تمكنت من جمعهن أخيراً، إلا أنها لم تدرك على ما يبدو أن الكلمة النهائية للأقدار وأن من ورثت عن أبيها جينة الإنصات لذلك الصوت الداخلي المنبعث من أعماق الروح لا يمكن لها إلا أن تسلك في نهاية المطاف مسالك المتاهات الأسطورية، وهذا ما يجعل المعنى الأسطوري عصياً على الإدراك لأنه لا يخضع لنظام حسب تعبير كلود ليفي شتراوس: (( من المستحيل أن ندرك المعنى دون نظام ... إن كلمة :معنى" هي ربما في اللغة ككل أصعب الكلمات التي يمكن إيجاد معنى لها. فما هو معنى المعنى؟ )  

وهنا يأتي دور الكتابة في لملمة أشتات الأسطورة في نظام ما يُسهِّل محاولات القبض على المعنى فـ(( المعنى الأساسي للأسطورة لا ينتقل من خلال سلسلة من الأحداث ولكن من خلال حزمة من الوقائع أو الأحداث)

لقد قدمت الروائية في هذا النص تلك الحزمة من الوقائع والأحداث من رحلات عبدالحي وما عاشه من وقائع، ومن خلال نساء العطر وما يتمتعن به من خصائص ومن خلال بناتهن سليلات العطر وما ورثنه. ولا تتوقف الأحداث عند ما سبق إذ ثمة شخصيات ثانوية (عرافة بني مر ـ صانع العطور جميل، عازف الجيتار خوان وصديقته ريكا...) جميعهم كانوا بسلوكهم يرتّقون أجزاء الأسطورة ويكملون نسجها من خلال أساطيرهم الخاصة. أما أصحاب الدور الثانوي (الغجر) فقد كان لهم الفضل الأكبر في إنقاذ بعض تلك الشخصيات من الهلاك ما منح أسطورة الورد والحب ضمانة اكتمالها.

قد تكون هذه الرواية بمثابة استراحة محارب بالنسبة للكاتبة بعد خمس روايات تناولت جوانب مهمة من الحياة الاجتماعية أثناء الثورة السورية ثمان روايات تناولت وتسع روايات سابقة على الثورة لم تخرج عن إطار الهمّ الاجتماعي للمجتمع السوري. أقول استراحة محارب من حيث المضمون لكنها في الواقع تأتي تتويجاً لرؤيتها الفكرية التي ترى ضرورة سيادة مفاهيم الحب والجمال والتعاون واحترام الآخر في المجتمع فهي الخلاص الوحيد من هذا الواقع المزري. تبدت هذه المفاهيم من خلال علاقات سليلات العطر ببعضهن وبسكان القرى المجاورة لهنّ في المحمية وكذلك من خلال التنوع الإثني الذي يجمع الأخوات وبقية الشخصيات إضافة إلى ما سبق ذكره.

تقع الرواية في ثلاثمئة وأربعة عشر صفحة صادرة عن الهيئة المصرية ـ سلسلة الإبداع العربي ـ للكتاب 2020

....................................................................................................................................................... عبد الرحمن حلاق

https://www.alquds.co.uk/%d8%a3%d8%b3%d8%a7%d8%b7%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%85%d8%a7%d9%84-%d9%81%d9%8a-%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b8%d9%84-%d9%84%d9%84%d8%b3/

الاستعارة والانحرافات المعرفية ـ قراءة في رواية فواز حداد تفسير اللاشيء

  في السرد الروائي نجد أنفسنا أمام مجموعة من الصور الكلية التي تصنع استعارات بلاغية مختلفة في الشكل عن المفهوم البلاغي المتعارف عليه في ك...