الأربعاء، 3 مارس 2021

الاستعارة والانحرافات المعرفية ـ قراءة في رواية فواز حداد تفسير اللاشيء

 


في السرد الروائي نجد أنفسنا أمام مجموعة من الصور الكلية التي تصنع استعارات بلاغية مختلفة في الشكل عن المفهوم البلاغي المتعارف عليه في كتب البلاغة التقليدية، فقد أفضى التداول اليومي إلى إضفاء صفة المباشرة والتقريرية على كثير من الاستعارات التي (نحيا بها). وعندما نقرأ هذه الصور  -الاستعارات- نجدها تصنع غطاء يتوارى خلفه المعنى الذي أرق الكاتب منذ بداية التماع الفكرة في ذهنه إلى لحظة الانتهاء من كتابته، ولو افترضنا أن كاتباً مثل فواز حداد توصل بعد طول معايشة وتجربة مع سنوات القتل والدمار في سوريا إلى نتيجة مفادها أن شرائح واسعة من المجتمع السوري (المؤيد والرمادي والصامت) هم مرضى نفسياً، وأراد أن يقدم لنا مثل هذه النتيجة القابلة للدحض والمناقشة، سأتضامن معه وأفترض مسبقاً أن هذا المرض يدعى (الانحراف المعرفي) وهو مرض نفسي ناجم عما يمكن تسميته (الانحراف النمائي) إذ بكل تأكيد أن خللاً تربوياً ما حصل في مرحلة المرآة التي يتشكل فيها وعي الذات ووعي والآخر وتتكون خلالها الدوافع والمشاعر والإحساسات وأدى هذا الخلل بالضرورة إلى نوع من الإصابة بما يدعى (الإيمان المتعصب) وتشكلت لديهم أنواع مختلفة من اضطرابات الشخصية. وإذا كانت مرحلة المرآة مصطلح لاكاني (نسبة إلى جاك لاكان) في التحليل النفسي ويقتصر على فترة قصيرة جداً في بداية الطفولة إلا أنه يمكننا استعارته أيضاً وتطبيقه على مرحلة الطفولة الفكرية التي تتشكل خلالها الشخصية ويمتلك الفرد كامل ذاته بكل ما فيها من انحرافات معرفية لا يمكن لها أن تتسق إلا مع سلطة قامعة تجيد زراعة الخوف والإرهاب. وفي هذا الإطار تحديداً يمكن للخوف أن يستعير الرمز ويتلاعب بدلالته، ويستعير التُقْيَة ويتفنن في ممارستها حتى أنه يستعير أدوات الموت والإقصاء ويبدع في تبريرها، مجسداً كل هذه الاستعارات في أفراد فتكت بهم الأمراض، فاضطراب الشخصية هو طريقة للتفكير والشعور والتصرف تنحرف عن توقعات المجتمع والاضطرابات الشخصية هي أنماط سلوكية طويلة الأجل وتجارب ذاتية داخلية تختلف اختلافًا كبيرًا عما هو طبيعي ومتوقع بمعايير المجتمع.

ونستطيع تبيان هذه الاستعارات الاضطرابية من خلال إلقاء الضوء على بعض شخصيات رواية فواز حداد (تفسير اللاشيء) التي مارست سلوكياتها المنحرفة بعيداً عن توقعات المجتمع الثائر ضد الاستبداد والإرهاب في مملكة الخوف:

بدءا بالصفحة الأولى يضعنا فواز حداد أمام شخصية الأستاذ الجامعي عبدالحميد الصاروف الذي تصل به شخصيته الفصامية إلى درجة الإحساس بأنه كائن غير مرئي فيعبر الشارع غير آبه بشارته الحمراء مما يعرضه لحادث كاد أن يودي بحياته لكنه يتابع سيره وقد ارتسمت على ملامحه علامات الدهشة من نظرات الناس فقد أيقن أنهم رأوه واستغربوا تصرفه. وسنكتشف مع متابعة القراءة أن هذه الشخصية جمعت في ذاتها مختلف أنواع الاضطرابات الشخصية أما ما كان يفكر فيه أثناء سيره ليس ماحل بالبلد من دمار ولا بأنواع الموت الذي يتقافز في الشوارع وإنما كان يفكر بامرأة هجرته.

لم يكن الصاروف في بداية عهده شخصية مضطربة بل استطاع الحصول على معدل ممتاز في رسالة الماجستير في العلوم الاجتماعية وكان يعد العدة لبحث معمق عن أمراض العصر لينال به رسالة الدكتوراه، كان قد استكمل ذاته النرجسية إذ يتمتع بلمعات ذكية ويطرح آراءه الجريئة بطريقة تضع المتربصين به في حيرة حول تفسير مقاصده، لكنه حورب من قبل اللجنة الفاحصة ولم تُقبل الرسالة وأُشيعت حوله التكهنات التي اعتادت تصنيف أمثاله في خانات الجهات التي يعمل معها، وكل ذلك لعدم وجود واسطة تفتح له الأبواب. هذا الوضع جعله يعيش سلسلة متوالية من الإحباط والانكسار ستجعله يتحول إلى شخصية حدية غاضبة باستمرار (لم ينتحل صاروف شخصية المفكر الحانق. كان مفكراً حانقاً بالفعل، الأوضاع الكارثية قدمت له الذرائع القوية والكثيرة ليغضب باستمرار، والتعبير عن انتقاداته بقدر كبير من السخرية والخفة، تشير ولو مواربة، إلى ما آلت إليه أمور الناس في بلد يتحكم به العسكر اللصوص والشبيحة) صـ15

تستعيد شخصية صاروف بعضاً من توازنها عندما تقبل إحدى الجامعات الخاصة بتوظيفه مدرساً نتيجة شحّ المدرسين وندرتهم في ظل الحرب الدائرة في البلد وعلى شعب البلد. وفي الجامعة يحب إحدى طالباته ويتزوجها فيشعر بمزيد من الاستقرار لدرجة أنه عاد إلى التفكير بإعادة العمل على البحث الذي يُشخّص فيه أمراض العصر. إلا أن حادثة رآها بعينيه بدأت تقلب له موازين التفكير الفلسفي وصار يتنقل من فكرة نهاية التاريخ إلى فكرة التاريخ يتقدم إلى الخلف إلى فكرة الركون للعدم واليأس، لقد رأى الشبيحة وهم يضربون شاباً صغيراً بأيديهم وأرجلهم حتى لفظ أنفاسه الأخيرة دون أن يجرؤ أحد في السوق على الاقتراب. هذه الحادثة نقلته من واقع المشاهدة التلفزيونية إلى واقع دخول الكادر وهذه النقلة تعكس سلوك شرائح واسعة من المثقفين الخائفين من الاعتقال.  فتعاملوا مع الحدث السوري وكأنه مسلسل تلفزيوني تجري أحداثه بعيداً عنهم يواصلون حيواتهم في المقاهي وفي السهرات منشغلين بالتحليل والتفسير ولا يملكون إلا سلاح التقية والمداورة بما يرضي الجهات الأمنية أو بما يكفل عدم سقوطهم في قبضة الجهات الأمنية. تزداد حالة الأستاذ الجامعي سوءاً ويدخل في عدمه الخاص مقتنعاً أنه تحول إلى لا شيء وأنه دخل في ثقبه الأسود الذي شكل لفترة زمنية طويلة عماد فلسفته. لقد أراد صاروف استعارة الفلسفة لتمنحه التوازن لكن قرار سهير بتركه والابتعاد عنه قلب هذا الميزان وأفقده توازنه للأبد. فالواقع بتبدلاته العنيفة يُصيب الفلسفة بارباكات متوالية وتحتاج إلى زمن كي تستعيد توازنها.

وإذا كان الأستاذ الجامعي قد اصطدم بواقع وجوده داخل الكادر وأن أصوات المدافع على داريا وأصوات القذائف ليست مجرد حرب في مسلسل وإنما هي حرب ستلتهم الجميع فإن الفنان التشكيلي أيضاً يسقط دون وعي منه داخل الكادر، لكنه سرعان ما يجد المنفذ إلى بر الأمان، فبعد خوضه في الكثير من المدارس الفنية التي لم يستطع أن يبدع من خلالها نراه يبتدع نظريته الخاصة (  الفن المفشكل) وفيها يرسم الجسد المفشكل باعتباره أحد تداعيات (جماليات القبح) ومع تحقيقه لشهرة واسعة في زواريب الفن وإصرار أصدقائه على الظهور في معرض عام يعاود حساباته الخاصة والتي تتلخص بفهم رجال الأمن لما يرسم فهذه الأجساد المشوهة والأيدي والأفخاذ بدأت تتشابه مع ما يتم تسريبه من صور أجساد المعتقلين فيقرر العودة إلى التجريد الذي (يتسع لكل ما لا يتسع له الفن بأنواعه القديمة والحديثة، ما ينجيه من أخذ موقف إلى جانب أي طرف، وفي الوقت نفسه، يفتح له المجال للانحياز إلى النظام والثورة والمعارضة والميليشيات المذهبية بأنواعها، وإذا احتاج الأمر للشبيحة أيضاً) صـ156

أما المنظّر السياسي في (تفسير اللاشيء) فهو الشخصية الأكثر اتصافاً بالإيمان المتعصب، والأكثر نرجسية وتعالياً، معجب بنفسه ولديه إحساس كبير بأهميته، يتملكه شعور بالاستحقاق ورغبة واضحة بالاستفادة من الآخرين. ولو كان على حساب دماء الشباب الذين تأثروا بإرشاداته وخرجوا للتظاهر مع معرفته الدقيقة بأن عناصر الأمن بانتظارهم وسيموتون بالرصاص لامحالة، ليؤكد نظريته بأن القوة هي التي تتحكم بالعالم وهي صانعة التاريخ.

هذه الشخصيات الثلاث تمثل استعارة المؤلف البلاغية التي يعكس من خلالها دور النخبة المثقفة ( مفكر وفنان ومنظّر سياسي) في التعاطي مع أهمّ لحظة تاريخية مفصلية في حياة سوريا، ولا يمكن بحال من الأحوال تبرير هذا الدور بمرض نفسي ناجم عن خلل تربوي في بدايات النشأة  فمرحلة المرآة كما ذكرنا من قبل يمكن استعارتها في تمثيل مراحل الطفولة الفكرية لهذه النخب ( المثقفة) لقد تشكلت ذواتهم الفكرية في ظل الإعلام الأسدي والمناهج التربوية الأسدية وعايشوا الفساد منذ نعومة أظفارهم تحت مظلة الخوف الرهيب الذي بدا وكأنه حتمي ومديد لذلك اشتغلت جميع حواسهم -وبملء إراداتهم- على غريزة التكيف والتلاؤم مع الطبيعة الأمنية لهذا النظام فأصبحت شعاراتهم الثورية تتجه للخارج وأصبحت تحليلاتهم الفكرية والسياسية تتجه للخارج، مع التعامي العام عما يحدث في الداخل، إنهم يتحدثون عن الخراب دون الإشارة للمخرب ويذكرون الفساد دون الإشارة للفاسد فأصبحت كل ويلات البلاد التي يعانون منها بسبب الخارج والمؤامرة الكونية والإرهاب. لقد منحتهم غريزة التكيف قدرة خارقة على الانحراف المعرفي بدءاً بتبنيهم لأيديولوجيات مختلفة وانتهاء بتبنّيهم تفسيرات تضمن لهم عدم التفات رجال المخابرات إليهم، وهذا بالضبط ما جعل الموقف الأخلاقي غائباً تماماً عن حساباتهم الخاصة فهو مكلف جداً في نهاية المطاف، إنهم النتيجة الطبيعية لبذور الخوف التي زرعتها الفروع الأمنية منذ بداية تأسيسها. وهم ثمار شجرة الخوف.

 رابط المقال على ضفة ثالثة :
https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/books/2021/3/3/%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D9%81%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%81%D9%8A%D8%A9

 

 

 

 

 

 

الأربعاء، 3 فبراير 2021

أساطير الجمال في رواية " كتاب الظل"

 

أساطير الجمال في رواية كتاب الظل

للروائية السورية إبتسام تريسي.

 


في تعليقه على مواقع التواصل، وهو يبارك صدور رواية "سلم إلى السماء" كتب الروائي فواز حداد: (دائما مبروك، ودائما إلى الأمام، أنت ترسمين اقدار الرواية السورية.)

ومنذ صدور روايتها الأولى "جبل السماق) صرح الروائي نهاد سيريس بقوله: ( مذ طبعت جبل السماق وأنا أراهن على هذا الحصان).

والدافع لذكر هاتين الشهادتين من روائيين لهما منزلة عالية في الوسط الثقافي في سوريا يكمن فيما قدّمته الروائية إبتسام تريسي في روايتها الأخيرة (كتاب الظل) من إنجاز يختلف في موضوعه كلياً عمّا قدّمه المنجز الروائي العربي عموماً _على الأقل ضمن ما اطلعت عليه_ فقد خلقت في روايتها الأخيرة مجموعة من الأساطير المدهشة في عوالم الجمال، تتكئ في مجموعها على مفاهيم (الحب والعطر والورود والموسيقا) كاشفة الوشائج العميقة بين أرواح شخصيات الرواية وأرواح النباتات والأزهار وحتى الأحجار. وذلك في إطار مكاني شاسع يمتد من الصين واليابان وصولاً إلى فرنسا وإيطاليا مروراً بعدد من الدول العربية في المشرق والمغرب، حيث يطارد تاجر العطور عبد الحي "معنى الورد" يريد الوصول إليه وتطارد العرافة تيلا "سليلات العطر" تريد جمعهن في محمية نسوية خاصة تُنشئها لهذا الغرض وسط الجبال الإسبانية. وتطارد تيلا (الأخت الصغرى) أسطورتها الخاصة حيث تتواطأ معها الأقدار في ذلك.

بعد الانتهاء من قراءة الرواية سيجد القارئ نفسه يتساءل ويعيد تركيب الحكاية أركيولوجيا ثم سيتمعن قليلاً بمجموع الأساطير التي تمثلت كلٌ منها على شكل امرأة لا يمكن الوصول إلى روحها إلا عبر معرفة كل الأسرار المتعلقة بواحدة من الورود بعينها. وسيجد القارئ نفسه أمام اثنتي عشر امرأة تقمّصت كل منهن روح وردة من الورود، توزعت النسوة على امتداد بقعة جغرافية موزعة في ثلاث قارات. ومع أن كل واحدة منهن تمثل أسطورة بعينها لكن الذي يمنح هذه الأسطورة امتدادها رجل واحد (الفتى الباحث عن معنى الورد) حكمت عليه إحدى العرافات بقولها:

(أمامك طريق فيه اثنا عشر كوكباً، ستقضي ليلة واحدة مع نساء يحملن روح الأرض في جيناتهن، وكلما تدفق ماؤك في رحم امرأة زرعت فيها شتلة عطر وأصبحت محرمة عليك.. وستبقى في بحث دائم عن امرأة تنجب لك ذكراً يستمر به نسلك، لكنك لن تحصد إلا الريح والبنات!) صـ231

ومع تنامي الحدث تمضي الأسطورة قدماً نحو الاكتمال عبر عرافة جديدة تبحث عن أبيها الذي يشكل أيضاً إحدى تفرعات الأسطورة، لكنها تلتقي الفتى الباحث عن معنى الورد وتعشقه إلا أن الأقدار جعلته محرماً عليها، يمنحها أسراره وتراتيله الخاصة قبل الموت فتكمل طريقها للبحث عن (سليلات العطر) اللواتي ولدن من أولئك النسوة لتتمكن أخيراً من جمعهن جميعا في محمية خاصة وسط جبال إسبانيا. ضمن نظام محدد وتراتبية محترمة وتتميز كل واحدة منهن أنها ورثت عن أمها روح الوردة فجعلتها محور حياتها علمياً وعملياً. مع اقتراب موعد تتويج تيلا الصغيرة الحاملة للرقم 12 عرافة للمحمية بعد أن تعلمت فنون أخواتها جميعاً وأضافت لكل منهن علماً جديداً، وجعلت المحمية تكتمل من حيث البناء والمعنى نراها تقرر أن تتماهى مع روح والدها فتمنح الأسطورة معنى جديداً للحياة غير ما أرادته العرافة تيلا.

ومن خلال هذه الإضاءة نتبين أصالة هذا الموضوع الجديد كلياً على الأدب العربي، وإذا كانت مخيلة الكاتبة قد استطاعت خلق الأحداث إلا أنها كانت في منتهى الواقعية في تعاملها مع المكان وفي تعاطيها مع المعلومات الغنية الواردة في التفاصيل حول الورود وفنون التطريز والأحداث التاريخية المصاحبة زمنياً زمن الحدث الروائي.

في البحث عن المعنى أنت بحاجة للمعاينة الحسية التي تمنح الإنسان تصوراً ذهنياً وكذلك بحاجة لقوة تعبيرية تصوغه في كلمات . وإذا كانت المعاني المعاشة قد تجلت واضحة لغوياً في بعض وجوهها إلا أنها في وجوه أخرى تلجأ إلى الاستعارة لتعبر عنها، كأن نتحدث عن الزمن بلغة المال أو الحب بلغة السفر على سبيل المثال. فإذا أردنا أن نرتقي قليلاً وشاركنا عبد الحي شغفه بالبحث عن معنى العطر في الورد فإننا قد نكتفي بالتقاط المعنى خلال لحظة النيرفانا التي تتوج التجربة. فهو يبحث عن المعنى ليعيشه وليشبع فضوله، ليس معنياً بتقديمه للعالم على طبق من كلمات، كذلك فعلت العرافة تيلا التي اشتركت مع نساء المحمية بخاصية النفور من مشاكل العالم وحروبه المستمرة، فأرادت صنع جنة خاصة، وهي إذ تدرك حتمية موتها تدرك أيضاً ضرورة استمرارية هذه الجنة عبر تيلا ( الصغيرة) فأرادت لها اجتياز اختباراتها الصعبة وسمحت لها بقراءة كتاب الظل الذي دونت فيه كل ما تعرفه عن عبد الحي ونسائه الموزعات جهات الأرض وأيضا كل ما تعرفه عن بناته اللائي تمكنت من جمعهن أخيراً، إلا أنها لم تدرك على ما يبدو أن الكلمة النهائية للأقدار وأن من ورثت عن أبيها جينة الإنصات لذلك الصوت الداخلي المنبعث من أعماق الروح لا يمكن لها إلا أن تسلك في نهاية المطاف مسالك المتاهات الأسطورية، وهذا ما يجعل المعنى الأسطوري عصياً على الإدراك لأنه لا يخضع لنظام حسب تعبير كلود ليفي شتراوس: (( من المستحيل أن ندرك المعنى دون نظام ... إن كلمة :معنى" هي ربما في اللغة ككل أصعب الكلمات التي يمكن إيجاد معنى لها. فما هو معنى المعنى؟ )  

وهنا يأتي دور الكتابة في لملمة أشتات الأسطورة في نظام ما يُسهِّل محاولات القبض على المعنى فـ(( المعنى الأساسي للأسطورة لا ينتقل من خلال سلسلة من الأحداث ولكن من خلال حزمة من الوقائع أو الأحداث)

لقد قدمت الروائية في هذا النص تلك الحزمة من الوقائع والأحداث من رحلات عبدالحي وما عاشه من وقائع، ومن خلال نساء العطر وما يتمتعن به من خصائص ومن خلال بناتهن سليلات العطر وما ورثنه. ولا تتوقف الأحداث عند ما سبق إذ ثمة شخصيات ثانوية (عرافة بني مر ـ صانع العطور جميل، عازف الجيتار خوان وصديقته ريكا...) جميعهم كانوا بسلوكهم يرتّقون أجزاء الأسطورة ويكملون نسجها من خلال أساطيرهم الخاصة. أما أصحاب الدور الثانوي (الغجر) فقد كان لهم الفضل الأكبر في إنقاذ بعض تلك الشخصيات من الهلاك ما منح أسطورة الورد والحب ضمانة اكتمالها.

قد تكون هذه الرواية بمثابة استراحة محارب بالنسبة للكاتبة بعد خمس روايات تناولت جوانب مهمة من الحياة الاجتماعية أثناء الثورة السورية ثمان روايات تناولت وتسع روايات سابقة على الثورة لم تخرج عن إطار الهمّ الاجتماعي للمجتمع السوري. أقول استراحة محارب من حيث المضمون لكنها في الواقع تأتي تتويجاً لرؤيتها الفكرية التي ترى ضرورة سيادة مفاهيم الحب والجمال والتعاون واحترام الآخر في المجتمع فهي الخلاص الوحيد من هذا الواقع المزري. تبدت هذه المفاهيم من خلال علاقات سليلات العطر ببعضهن وبسكان القرى المجاورة لهنّ في المحمية وكذلك من خلال التنوع الإثني الذي يجمع الأخوات وبقية الشخصيات إضافة إلى ما سبق ذكره.

تقع الرواية في ثلاثمئة وأربعة عشر صفحة صادرة عن الهيئة المصرية ـ سلسلة الإبداع العربي ـ للكتاب 2020

....................................................................................................................................................... عبد الرحمن حلاق

https://www.alquds.co.uk/%d8%a3%d8%b3%d8%a7%d8%b7%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%85%d8%a7%d9%84-%d9%81%d9%8a-%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b8%d9%84-%d9%84%d9%84%d8%b3/

الخميس، 17 ديسمبر 2020

نحال حلب، اضطراب مابعد الصدمة

 

نحّال حلب، أعراض ما بعد الصدمة

عبد الرحمن حلاق

قراءة في _ رواية نحّال حلب (The Beekeeper of Aleppo)

 للكاتبة الإنكليزية كريستي لفتيري (Christy Lefteei )

 ترجمة مهدي سليمان صادرة عن دار الخان ـ الكويت ط1 عام 2020

                                                                                                                                                                                                                            


      

         في صيف 2016 وصيف 2017 كانت الكاتبة الإنكليزية كريستي لفتيري المحاضرة في (الكتابة الإبداعية) في جامعة برونيل تعمل متطوعة في مركز للّاجئين تابع لليونيسيف في أثينا، وفي هذا المركز رأت الكاتبة وسمعت من الأهوال والقصص ما جعلها تعيش أرق الكتابة فكتبت تقول: (أننا مع الناس، الناس الذين يشكلون مبلغ همنا واهتمامنا أكثر من أي شيء في العالم عندما عانينا من هذه الخسارة الفادحة.) وهي ابنة أبوين لاجئين من قبرص في الأصل.

مدفوعة بهذا الحس الإنساني العميق تباشر الكاتبة عملها وذلك بجمع القصص التي رأتها وسمعتها لتصنع منها حكاية تستعرض فيها بعض وجوه الشقاء الإنساني في رحلة البحث عن الأمان، فعجنت الواقع بالمتخيل لتصنع لنا (نحّال حلب) وهي المحاضرة في الكتابة الإبداعية.

تنطلق الرواية من نقطة سابقة لنقطة النهاية بقليل ملتزمة بالتعاليم الأرسطية الواردة في كتابه (فن الشعر) فبطل الرواية نوري وزوجته عفراء في مركز خاص باللاجئين في بريطانيا وينتظر قبوله القانوني فيها، أي أنه لم يتبق غير خطوة واحدة للنهاية التي تتمثل بقبوله لاجئاً ووصوله إلى ابن خالته مصطفى صديقه وشريكه في تربية النحل والذي وصل قبله إلى بريطانيا وينتظره بفارغ الصبر، ثم تعود الرواية عبر تقنية الاسترجاع إلى الخلف لترصد أسباب النزوح ومحطاته المتعددة بكل ما فيها من أخطار فتنتقل من حلب إلى تركيا إلى اليونان حيث الجزء الأكبر من الحكاية ثم الوصول إلى بريطانيا جواً. هذا التنامي في الخط الدرامي نراه يتقطع أحياناً ببعض تفاصيل الحدث في مركز اللجوء البريطاني.

تسير الرواية في خطين متوازيين يلتقيان في نهاية المطاف عند خاتمة الرواية يتمثل هذان الخطان بفكرة (الوصول) حيث يصل نوري وعفراء في نهاية الأحداث إلى هدفهما المتمثل بلقاء مصطفى في بريطانيا، أما الخط الثاني فيتمثل بوصول نوري وعفراء إلى بعضهما -نفسياً- بعد معاناة شديدة مع مرض (اضطراب ما بعد الصدمة) وقد استطاعت الكاتبة المضي بالخط الثاني بحرفية عالية اعتماداً على تقنية المعلومة المخبأة التي تمنح العمل قدرة تشويقية عالية، وتسهم بشكل فعال في كسر أفق التوقع لدى القارئ

تبدأ الحكاية في مركز للاجئين في بريطانيا حيث نستمع لنوري وهو يخبرنا بخوفه من عيون عفراء فنعرف أنها عمياء ونعرف كذلك أنها كانت فنانة مغرمة برسم الماء أنى وجدته فهي ابنة الساحل السوري وتزوجت ابن (حلب الشرقية) فانفصلت بجسدها عن بيئتها لكنها بقيت في وجدانها. ومع تقنية الاسترجاع ينتقل نوري (الراوي) لنعرف من خلاله أنه كان قبل الثورة يمتلك هو وابن خالته مصطفى منحلة ضخمة يعمل بها أحياناً مئات العمال، عملا على إنشائها وتنميتها بكل حب وتفان. ومع اشتداد المعارك يخسر مصطفى ابنه في مجزرة نهر قويق التي ارتكبها جنود النظام فيقوم بقتل عدد من الجنود ويفرّ هاربا بزوجته وابنته إلى بريطانيا تاركاً لنوري رسالة يشرح فيها بالتفصيل ما حدث معه ويطلب منه أن يلحق به، في أثناء ذلك يفقد نوري ابنه في انفجار قنبلة ألقيت على حديقة المنزل بعد خسارته المنحلة كاملة فقد أحرقها (المخربون). توافق عفراء على النزوح فيبدآن الرحلة بداية إلى تركيا ومنها إلى اليونان عن طريق البحر، في يوم الانطلاق بالبلم نتعرف صدفة على طفل يرافق نوري في رحلته، ونتلمس في علاقتهما تلك الأبعاد الإنسانية في التعامل، وخوف الطفل ذي الشعر الأسود من ركوب البحر، وعند اشتداد العواصف في البحر نرى الطفل يساعد في تفريغ البلم من الماء الذي تدفعه الأمواج، لكنهم يصلون الجزيرة اليونانية وهناك يفقد نوري الطفل ويبحث عنه كثيراً ولا أثر، فيترك له رسالة ومبلغاً من المال على أمل عودته وقد كتب له أن اسمه صار (سامي) واسم أبيه نوري وأمه عفراء .

في أثينا يواصل بحثه عن محمد ضمن مركز الأمل لتجمع اللاجئين وفيه تستعرض الكاتبة قصص بعض اللاجئين الهاربين من جحيم بلدانهم سوريون وأفغان وغيرهم وتحكي لنا عبر الراوي ما يتعرض له هؤلاء البشر من استغلال وما يُرتكب بحقهم من جرائم إضافة لما يرتكبه بعضهم من جرائم أيضاً، في تصوير حيّ لواقع مرير يعيشه النازح. يتمكن نوري في نهاية المطاف من مغادرة اليونان بعد دفع مبلغ خمسة آلاف دولار لمهرب يوناني استغله لمدة شهر بالعمل مجاناً في توزيع المخدرات.

وطيلة مراحل الرحلة يتواصل نوري مع مصطفى عبر الإيميل، يخبره مصطفى بأنه بدأ العمل بمشروع صغير لتربية النحل _ عشقهما الأثير_ ويخبره نوري بمحطاته التي يصل إليها، وعند وصوله إلى بريطانيا يتأخر نوري في مراسلة مصطفى منتظراً تجاوز مرحلة المقابلة للحصول على حق اللجوء، وفي أثناء ذلك نتعرف على الاضطرابات النفسية التي يعيشها حيث تختلط لديه الأحلام والرؤى مع الواقع فنراه تارة بمواقف تذكره بالصدمة التي تلقاها في حلب أثناء انفجار القنبلة بجسد ابنه سامي فيعيش شعور تكرار الحدث وتنتابه موجة رعب حتى من طيور النورس التي يظنها طائرات ستباشر قصفها، ونراه تارة ينام في خزانة الملابس بعد صراع طويل مع الأرق، وتارة ثالثة يعرض نفسه لخطر الموت غرقاً في البحر وهو يتصور ابنه سامي الذي يخاف من الخوض في النهر، لقد استطاعت الكاتبة _ وهي بالأصل طبيبة نفسية _ أن تستثمر أعراض مرض ( اضطراب ما بعد الصدمة) في أحداث الرواية بشكل تام. فنوري وعفراء تجلى لديهما  الشعور بتكرار الحدث، كما أنهما عانا من الأرق وقلة النوم إلى جانب ابتعادهما قدر الإمكان عن البشر، والعيش بعزلة تامة بالنسبة لعفراء، وشبه تامة بالنسبة لنوري، لنكتشف في نهاية المطاف أن العمى الذي أصيبت به عفراء كان ناجماً عن انفجار القنبلة وموت سامي بين يديها، وقد بدأت رويداً رويداً تسترد بصرها، ولنكتشف أيضاً أن نوري قد اختلق شخصية الطفل محمد في ذهنه كحالة تعويضية عن فقدانه لولده سامي وأن البِلْيَة التي تلعب بها عفراء طوال الوقت هي من ألعاب سامي وليست كما أخبرنا نوري أنها لمحمد، أما الصدمة التي جعلتهما يفترقان نفسياً عن بعضهما فقد تمثلت بحالة اغتصاب قام بها المهرب اليوناني لعفراء يوم نسي نوري مفتاح الغرفة التي تنام بها في مكتب المهرب الذي استغله بتوزيع المخدرات، وقد جعلته هذه الصدمة يعيش ليال طويلة مليئة بالهواجس والمخاوف والعزلة، حتى أنه يتصور وصول محمد في كل لحظة فيصنع له الوهم حكايات عديدة تجعله في حوار متخيل دائم مع محمد الذي يطلب منه مفتاحاً معلقاً على الشجرة فيتوهم نوري أزهار الشجرة كلها مفاتيح، ولم يستيقظ من اضطراباته هذه إلا بعد أن كاد يغرق في البحر، فيعود بعد نجاته من تلك الحادثة ليعتذر من عفراء. ولتلتقي أخيراً الخطوط المتوازية جميعاً بوصول مصطفى إلى المركز ليأخذهما معاً إلى يوركشاير حيث بقية العائلة والمنحلة الجديدة. أما الحالة الوحيد التي ساعدته في الحفاظ على ما تبقى من توازنه، فتمثلت بعثوره في الحديقة على نحلة مصابة بمرض الفايروس الجناحي إذ لا تستطيع الطيران، فيتعامل معها بكل رفق ويساعدها على البقاء حية بفضل خبرته في تربية النحل، وإذا أردنا تأويل رمزية هذه النحلة فسنجد بكل بساطة أنها تمثل المعادل الموضوعي له، فقد استمرت النحلة بالحياة بفضل مساعدته لها واستمر هو بالحياة بفضل مساعدة الآخرين له.

تمثل هذه الرواية بتصوري إضافة مهمة لموضوعات الأدب الروائي من حيث كونها تعالج نفسياً الآثار المرضية الناجمة عن الصدمة، دون أن تخوض في التفاصيل والأبعاد السياسية، فالكاتبة في محصلة الأمر غير معنية بغير الأبعاد الإنسانية للقضية ويهمها أولاً وأخيراً سلامة الناس فهم مبلغ همها كما صرحت.

كلمة أخيرة:

تستدعي الرواية ضرورة توثيق السوريين لسرديتهم، فالآخر يكتب من وجهة نظره المبنية غالباً على ما كرسته وسائل الإعلام الموجهة. التي ترسخ قناعة العالم بأن حرباً أهلية استعرت في سوريا في مارس 2011 ضاربة بعرض الحائط أبسط تعريفات الحرب الأهلية، لذلك بات من واجب كل سوري حر أن يكتب قصة معاناته، بغض النظر عن القيمة الفنية لما يكتب، عليه أن يصرخ في وجه العالم بالحقائق التي عاشها، خاصة ما حدث في السنة الأولى، سنة الثورة الحقيقية التي يحاول الجميع طمسها. ما جعلني ألفت النظر إلى هذه الضرورة غياب بعض الحقائق عن ذهن الكاتبة أو اعتمادها لمصادر غير موضوعية في ذكر بعض الأمور. فهي تقرر ومنذ البداية أن ما جرى هو حرب أهلية (وفي مارس من تلك السنة كانت الحرب الأهلية قد بدأت للتوّ مع اندلاع احتجاجات في دمشق) صـ29 وتعود في الصفحة 32 لتقرر (في تلك الليلة في أواخر الصيف، دمر المخربون خلايا النحل، إذ أضرموا فيها النار) أما من هم المخربون؟ فهذا هو السؤال الذي يطمس الحقيقة ففي ذلك الصيف لم تكن جبهة النصرة أو داعش قد دخلوا حلب التي دخلها الجيش الحر في صيف 2012 وإطلاق صفة التخريب على الجيش الحر في بداياته لم تكن تصدر إلا من الإعلام الأسدي ومن معه من شبيحة أو موالين. أما عندما تأتي على ذكر مجزرة نهر قويق فتكتفي بذكر كلمة الجنود بما فيها من عمومية مطلقة فقد أطلق الجنود النار على الرجال والصبية ورموهم في النهر. 

رابط المقال : https://www.syrianwa.net/2020/12/16/%d8%b9%d8%a8%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%ad%d9%85%d9%86-%d8%ad%d9%84%d8%a7%d9%82-%d9%86%d8%ad%d9%91%d8%a7%d9%84-%d8%ad%d9%84%d8%a8%d8%8c-%d8%a3%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d8%b6-%d9%85%d8%a7-%d8%a8%d8%b9%d8%af/



الخميس، 24 سبتمبر 2020

حُسْنُ تخلصٍ أم تهرّبٌ ضريبي؟ رسالة إلى محبي الشيخ نور الدين عتر

 


في حادثة تبدو كطرفة كنت أسمعها في تسعينات القرن الماضي  في الكويت أن رجلاً زنى بخادمته فجاء يستفتي أحد أئمة المساجد عن الخادمة هل تدخل ضمن ملك اليمين أم لا فيجيب الإمام بسؤال ( هل أنت مالكي أم شافعي ) فقال له بل مالكي فرد إمام الجامع بالقول: أنا شافعي والشافعي لا يفتي لمالكي.

في البلاغة قد يُحمل موقف الإمام على باب ( حُسن التخلص ) أما في الواقع فهو تهرّب من دفع ضريبة الموقف، تهرّب من جواب له تبعات كثيرة فالعلاقة بين السائل والمسؤول محكومة بمصالح شخصية لم يُرد الشيخ أن يخسرها إن قال له أن هذه الواقعة تدخل في باب الزنى وبنفس الوقت إن قال ليست بزنى فسيكون مهدداً بسيف الترحيل كونه وافد.

تنسحب هذه الحادثة بحيثياتها على شريحة واسعة من علماء الدين في سوريا، ممن لا يريدون خسارة مكاسبهم الشخصية إن هم جهروا بالحق وفي الوقت ذاته لا يستطيعون إغضاب ربهم بالسكوت عن الظلم وهنا تأتي تقنية ( حسن التخلص ) البلاغية كمنقذ من هذه الورطة فكما أن كثير من آيات القرآن الكريم تُستخدم على مبدأ ( لا تقربوا الصلاة ) أو تُجتزأ بطرق توهم المتلقي بحكم شرعي قاطع كذلك تستخدم الأحاديث النبوية أيضاً لما فيها من روايات متعددة أو لتشريحها وتجزيئها حسب رغبة الشرعي الذي يستنبط الحكم. ولنأخذ على سبيل المثال ما [رواه أبو داود (4259) ، والترمذي (2204) وحسنه ، وابن ماجة (3961) عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَكَسِّرُوا قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ، وَاضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بِالْحِجَارَةِ، فَإِنْ دُخِلَ - يَعْنِي - عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ، فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ) .]

ولنضع خطاً أحمر تحت عبارة ( إن بين يدي الساعة ) التي تتحدث عن علامات الساعة واشتراطاتها فقبيل يوم القيامة سيصبح الأمر كما ورد في الحديث، عندئذ فلتكن أيها المسلم قتيلاً  كهابيل أفضل من أن تكون قاتلاً  كقابيل.

لكن الحديث السابق لم يبق كما هو فقد صححه الألباني في "صحيح أبي داود".

 [ وفي لفظ لأبي داود (4263): ( إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي) ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: (كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ) " .]


فقد اختفت لفظة ( الساعة ) ليتم تداول الحديث عند انتشار الفتن والفتن في الفقه الإسلامي هي مجمل الحوادث التي يخشى فيها المرء على دينه وعند ظهورها يتوجب على المسلم أن يلازم بيته ولا يبرحه. وبذلك يتوافق الحديث مع حديث آخر يتم الأخذ به أيضاً عند ظهور الفتن وهو الحديث الذي رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه منها [ ( 7088 ) كتاب الفتن ،  عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَن ) .]

إذاً لم يعد الأمر حديثاً عن الساعة وأحوالها بل هو في الفتن عامة ولأن الثورة السورية حدث جلل وعظيم فقد أدرجها كثير من علماء الدين في سوريا تحت هذا البند واعتبروها فتنة ولذلك سارع كثير من الناس بترك بلدانهم الثائرة والفرار بدينهم إلى ( شعف الجبال في اللاذقية أو مواقع القطر في حماه ودمشق وبقية مدن النظام ) مما سهّل على العصابة الأسدية التحدث عن إرهابيين مسلحين تساندهم حاضنة اجتماعية واسعة وبذلك تم القضاء على مئات ألوف المواطنين باسم الإرهاب. وفي هذه الجزئية تحديداً لم يقتصر الأمر على العامة من الناس أو على رجال الدين بل شمل أيضاً الكثير من المثقفين وصغار الكتبة ممن يدّعون اليسار  الفكري بغض النظر إن كان منظماً في حزب أم غير منظم.

وإذا التمسنا بعض العذر للعامة _ مع أنه لا عذر لهم _ فكيف يمكننا أن نلتمس العذر للخاصة، ألم يعلمونا أن الساكت عن الحق شيطان أخرس ؟ كيف خرس الآلاف من رجال الدين؟ وكيف تحولت مواقف الكثير من علماء الدين في حلب الذين وقعوا في شهر تموز 2011 بياناً استنكروا فيه بطش النظام كما حملوه مسؤولية "سفك الدماء البريئة، وانتهاك الأعراض الحصينة"، وكان الشيخ "نور الدين عتر" في مقدمتهم؟ هل اكتشفوا فجأة أنها ليست ثورة وإنما هي فتنة ؟ وصدقوا سردية النظام بالمؤامرة الكونية.

لا يمكن لعاقل تفسير هجرتهم إلى أحضان النظام (شعف الجبال ومواقع القطر) بأنها فِرار بالدين فعصابات الأسد كانت واضحة جداً ( مين ربك ولاك ) ، واضحة جداً من خلال تدمير آلاف المساجد والكنائس وعشرات آلاف البيوت لا بل داسوا على القرآن وحرقوه ومارسوا كل أنواع الفحش في المساجد، فأي هجرة هاجرتها يا شيخ ( نور الدين عتر )؟ وأنت المحدث الحافظ الفقيه النابغة الورع المتواضع يامن تخرج على يديك آلاف الطلبة في كليتي الشريعة والآداب. ولماذا فضلت أن تأخذ برواية البخاري للحديث السابق؟ أما كان الأجدر بك أن تأخذ بالشق الأول من الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه [ ( 1888 ) عن أبي سعيد الخدري أيضاً رضي الله عنه أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ. قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ ( .]

يقول محبوك أنك آثرت البقاء بين تلاميذك ولم يعتقلك النظام لكبر سنك ومكانتك العلمية. ألا توافقني أن من الحب ما قتل؟ سأجتزئ لمحبّيك هذا الجزء مما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن مسعود ( فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها )


الأربعاء، 20 مايو 2020

شخصيات "مدن اليمام " بين السموّ والوضاعة


عبد الرحمن حلاق
شخصيات "مدن اليمام " بين السموّ والوضاعة

قراءة في رواية " مدن اليمام " للكاتبة السورية إبتسام تريسي

تشكل الثورة حدثاً استثنائياً في تاريخ الشعوب فهي صرخة الـ (نحن) في وجه ذاتها، هذه الصرخة التي قد لا تحدث إلا لمرة واحدة كل عدة قرون، ولا تحدث إلا ضد الظلم والفساد المستفحلين في بنية المجتمع الثائر، ولذا فهي مختلفة كلياً عن ثورات التحرر فهذه الثورات تبقى صرخة في وجه الآخر الغريب المحتل. وفي حين تبقى ثورات التحرر ذات تأثير طفيف على المجتمعات المحيطة، فإن الثورة على الذات تبقى مثالاً يحتذى على صعيد العالم وتبقى دوائر تأثيرها تموج في المحيط فترة زمنية طويلة.
وإذا كانت ثورات التحرر قد حازت على انتباه الكتاب والأدباء ردحاً من الزمن فإن الثورة على الذات تستمر أمداً أطول بكثير من حيث كونها مادة ثرية لمختلف صنوف الإبداع، وما نزال حتى يومنا هذا نجد الكثير ممن يتناولون الثورة الفرنسية بالكتابة على طول العهد بها.
على صعيد الثورة السورية نستطيع القول إنها ماتزال في بدايتها رغم مرور أربع سنوات عليها، ورغم ذلك انبرت عدة أقلام لمواكبة الحدث العظيم هذا، منها ما كان يعيش الحدث في الداخل، ومنها ما كان يعيشه وهو في الخارج. من قلب الحدث تطل علينا إبتسام تريسي بروايتها (مدن اليمام) ليس ككاتبة تراقب ما يحدث لتكتب ولكن كامرأة تشارك في صنع ما يحدث وتعيش لحظات سموه ولحظات ألمه، وتراقب عن كثب تحولاته وانزياحاته، تحلق مع شعارات الحرية وتتألم من رصاص المستبد. ثم تقدم لنا وبأسلوب أدبي أنيق ولغة رشيقة روايتها التي تتناول من ضمن ما تتناوله فكرة استغلال المستبد لأبشع نوازع الشرّ في الإنسان ، ومقدرة المستبد على توظيف بعض القناعات الباطنية لتربية جيش من المنتفعين والقتلة يحفظ له بقاءه على كرسي الحكم، وفي المقابل يمكن أن نتلمس من خلال تطورات الخط الدرامي للأحداث عظمة شعب وهو يقاوم البطش والدمار، يقاوم محاولات المستبد لتطييف الشعب وتقسيمه، وإرغامه على الابتعاد عن كل ما هو سلمي مدني إنساني، نتلمس كذلك عظمة شعب يسعى للعيش في ظروف إنسانية سليمة لا تمت بصلة للتمايزات الدينية أو المذهبية أو العرقية.
تتوقف الرواية عند السنة الأولى من عمر الثورة السورية. بذلك يمكن القول إن الرواية ترصد بدايات تشكل الثورة خاصة في مرحلتها السلمية. عندما كانت قوات المستبد السوري تستبيح دماء المتظاهرين ونشطاء الإغاثة.
ولأن الرواية تتناول الحدث من داخله كان لابد للراوي أن يكون شخصية مشاركة في الحدث، وكي لا تقع في مطبات المباشرة والتسجيلية اعتمدت الكاتبة ثلاثة رواة لكل دوره حسب موقعه، وجميعهم مشاركون في الحدث (الأم ـ حنظلة ـ نورس) هذه الآلية أسهمت وبشكل كبير تغطية شاملة للمكان وأعطت أفضلية متقاربة للشخصيات خاصة وأن هكذا حدث لا يتضمن بطولة فردية، فالبطل هنا وفي الثورة هم الجموع، لذلك شكلت شخصيات الرواية مجموعة دوال هامة يتضمن كل منها معناه الذي يسهم ببناء معمارية النص ـ الحدث.
من هذا المنطلق تأتي دراسة الشخصية في مدن اليمام على جانب من الأهمية بمكان. خاصة وأن الزمن في مدن اليمام مؤطر بالحدث، والحدث وإن كان منتظماً برحلة بحث الأم عن ابنها الناشط والمعتقل فيما بعد إلا أن هذه الحكاية تتولد منها حكايات وتتناسل قصص تروي بطولة مكان قرر أن يستعيد وجهه الحقيقي الوجه المشرق لأبنائه.
لهذا كله ارتأيت أن أتناول الشخصية كونها أحد أهم مكونات العمل الروائي إذ لا يستقيم حدث دون وجود من يقوم به فعلى عاتق الشخصية الروائية تنهض الأحداث وعلى عاتقها أيضاً ينهض النص بمجمله.
بداية لن نجد في هذه الرواية شخصية رئيسة وأخرى ثانوية فالنص أقرب إلى الملحمة منه إلى الرواية الفارق أن البطل الملحمي يقود الجموع في سلسلة مواجهات الغاية النهائية منها ترسيخ القيم الأخلاقية التي ينادي بها المجموع وبالتالي فهو يعبر عن مشاعر المجموع وطموحاته في بناء أمة، بينما نجد في مدن اليمام أن هذا المجموع لم يسلم قياده لفرد بل تولى بذاته المواجهة ما جعل الحدث الروائي فيها يقتصر على حالة صراع بين الخير والشر، صراع شعب ثائر لأجل حريته وكرامته يتصدى له المستبد بكل ما يملك من عصابات مستفيدة ومنتفعة من وجوده، يمدها بكل أسباب القوة، هذا الحدث حتم ظهور شخصيات عديدة ومتنوعة وموزعة على مساحة واسعة، وفي الوقت ذاته تتساوى إلى حد ما في الظهور، وكثير منها لا يتعدى ظهوره مساحة دور صغير في حكاية أو حدث، هذا التنوع وهذه التعددية جعل من البنى الحكائية تتناسل وتتوالى على امتداد النص الروائي، وفي معظم هذه الأحداث نرى أن الناظم بينها إما شخصية الراوي أو المكان ذاته وفي مجملها تعكس أكبر قدر من هذا الصراع بين القبح والجمال، بين الشرف والوضاعة، بين الخير والشر، وعلى وجه الخصوص بين الحرية والاستعباد.
وبغية تناول الشخصيات في مدن اليمام سأحاول الارتكاز على ما توصل إليه فيليب هامون في دراسته حول الشخصية الروائية حيث يحدد ثلاثة محاور لدراسة الشخصية تتمثل في (مدلول الشخصية ـ مستويات وصف الشخصية ـ دال الشخصية) وذلك في ضوء تحليل الشخصية الروائية: " بوصفها وحدة دلالية قابلة للتحليل والوصف أي من حيث هي دال ومدلول، وليس كمعطى قبلي وثابت "[1]  وتتأتى وظيفتها الأدبية " حين يحتكم الناقد إلى المقاييس الثقافية والجمالية "[2]
وبناء عليه يصنف هامون الشخصية الروائية إلى ثلاث فئات: (المرجعية ـ الواصلة ـ التكرارية)
1 ـ الشخصيات المرجعية: وهي شخصيات تحمل علامة مرجعية وإحالية ( تحيل على معنى ممتلئ وثابت، حددته ثقافة ما. وباندماج هذه الشخصيات داخل ملفوظ معين، فإنها ستشتغل كإرساء مرجعي يحيل على النص الكبير للإيديولوجيا أو الثقافة. إنها ضمان لما يسميه بارت بأثر الواقعي.[3] من أهم هذه الشخصيات في مدن اليمام تأتي شخصية حنظلة الشخصية الشهيرة التي أنتجها الفنان الفلسطيني ناجي العلي، وغير خافٍ على أحد مدلول هذه الشخصية بأبعادها الثقافية والنضالية التي تتسم بأرقى سمات الكفاح السلمي إذ تعتمد الكلمة والرسم سلاحها في وجه الشرور الواقعة على الإنسان بالمطلق. وقد أضافت الكاتبة لهذه الشخصية مستويات جديدة بأن أنسنتها ومنحتها دوراً هاماً في تقصي الحقائق. تتسلل شخصية حنظلة من خلال الأوراق إلى عالم الفيس بوك وتنشئ صفحة سرية تضيف إليها شخصية الأم فقط. ومن خلال هذه الصفحة سيكمل حنظلة رواية أحداث في مناطق لا يمكن لشخصية الأم أن تتواجد فيها إنها تقنية الكاتبة في التعويض عن الراوي العليم واستبداله براوٍ مشارك في الحدث. نراه بداية في جسر الشغور ثم في حماه وبعد ذلك حمص وأخيراً في دمشق، يرصد وينقل الأحداث يسبح في الزمن من خلال تقنية الاسترجاع فينقل لنا بعضاً مما جرى في حماه في ثمانينات القرن الماضي، ثم يعود إلى الحاضر ليعتقل ويكمل رويه بما يعيشه ويراه. كذلك تتسم هذه الشخصية ببعض سمات الشخصية التكرارية، خاصة فيما يتعلق بنقل الأخبار، وحياكة الاستدعاء والتذكير ضمن النسيج العام للرواية، وفيما يتعلق بالشخصيات التكرارية فإن (مرجعية النسق الخاص للعمل وحدها كافية لتحديد هويتها، فهذه الشخصيات تقوم داخل الملفوظ بنسج شبكة من الاستدعاء والتذكير ووظيفتها وظيفة تنظيمية وترابطية بالأساس، إنها علامات تشحذ ذاكرة القارئ)[4]. يشترك حنظلة في ذلك مع الشخصية الأساس في الرواية ( شخصية الأم ) وفي الحديث عنها يمكن القول أن هذه الشخصية تشكل محوراً أساسياً في الرواية فمن حيث كونها مدلول تحيل إلى تلك المرأة التي لا همّ لها سوى الحفاظ على سلامة ابنها ونجاحه وتتسم بخوف دائم عليه أما من حيث مستويات الوصف فهي أيضاً شخصية مناضلة ولا تستطيع إلا أن تكون مع الجموع الثائرة على الظلم، أما من حيث البناء الروائي فهي من تخلق خطوط الحكاية وهي الراوي الرئيس لها ومن خلالها حصراً يحضر الراوي الثاني حنظلة وكذلك الراوي الثالث نورس، إنها أشبه بمخرج درامي تأسره الأحداث وتحركه بدلاً من أن يقوم هو بتحريكها فلا يمتلك غير الإمساك بالكاميرة ليلتقط أهم ما يراه. وبدافع من قيمه الإنسانية ينخرط طواعية بالحدث العام، تبدأ الحكاية برؤيا تبعث على القلق والخوف وهي التي تخاف من أي منام تراه إذ سرعان ما يتحقق.
تجلس مع طفلها على صخرة وسط مياه الشاطئ تلاعبه ويشير إلى سمكة ملونة جميلة وهو يضحك وبلحظة تتقدم موجة هائجة تغمره ليختفي لحظات عن عينيها.
تدرك هذه الأم الآن أن طفلها الذي كبر لن يقف موقفاً حيادياً في ثورة شعب انطلقت، خاصة وأنه في سنته الجامعية الأخيرة في العاصمة دمشق حيث بدأت الأحداث تتصاعد، تماماً مثلما أنها هي أيضاً لن تستطيع الوقوف موقف المتفرج مما يحدث وهي ابنة مدينة عانت ما عانت في مطلع الثمانينات من المستبد ذاته. وإذ تسافر إلى دمشق لتلتقي بولدها تتعرف على أبي سعيد الفلسطيني الذي يهبها بعضاً من تاريخه الشخصي على شكل دفتر ومجموعة أوراق خاصة تحكي رحلة أبيه في التشرد والنزوح (حيث طلبت الأوراق بدافع فضول الكتابة فهي في الرواية ليست أماً وفقط بل كاتبة أيضاً) وتكتشف بين الأوراق رسماً لم ينشر من قبل لناجي العلي يصور فيه شخصية حنظلة.
إن شخصيات الرواية يمكن تقسيمها إلى فئتين وحسب. (الشخصيات الثائرة والشخصيات القامعة للثورة أو أدوات المستبد في القمع). فبالإضافة لشخصية الأم وشخصية حنظلة نجد الشخصيات التالية والتي تلعب دوراً بارزاً في تكوين النص الروائي:
نور :
ويعد الاسم بداية دالاً مرجعياً يحيل إلى كل ما هو مضيء على المستوى الإنساني وهو طالب جامعي فاجأته الثورة قبيل تخرجه يحمل في داخله عذابات جده وأخواله أيام أحداث الثمانينات يعيش في مخيم اليرموك، ينشط منذ الأيام الأولى للثورة في المظاهرات السلمية وعندما يشتد القمع يتحول مع مجموعة من أصدقائه للعمل الإغاثي يعتقل أول مرة ويخرج ليعتقل ثانية، لا نرى لهذه الشخصية حضوراً مباشراً في الحدث إلا في بعض مفاصل الرواية لكننا نكتشف في رحلة أمه الثانية إلى دمشق عندما اعتقل للمرة الثانية أنه أحد الشخصيات المؤثرة والفاعلة جداً في وسطه لدرجة أن أمه أحست أن كل من في دمشق يعرفه (صرت أنتبه حتى إلى أشجار الطريق، فتقول لي همساً إنها تعرفه، وقد مر بها يوماً، ومست أصابعه لحاءها بحنان! هو هنا في كل مكان في دمشق.. الأزقة والشوارع ووجوه العابرين.)[5]
يأتي هذا المقبوس على لسان أمه بعد أن تكتشف وهي في خضم العمل الإغاثي أن كل من التقتهم يعرفون نور لهذا كتبت في الإهداء (كان نوراً لي فقط، وصار نوراً لمئات الأصدقاء الأحرار.. كان ابني، وأصبح ابن سوريا.. ابن الشمس.. يمتلكه السوريون.. يستبدلون صورته بصورهم الشخصية على الفيس بوك.. يكتبون عنه.. يحبونه مثلي، وربما أكثر.. )[6]
نورس:
من أصدقاء نور في النشاط السلمي للثورة، مخرج سينمائي (وهذه بحد ذاتها علامة مرجعية) يعتقل في المطار وهو يحاول تهريب فيلمه الذي صنعه عن الدكتاتور، يساهم بدور فعال في روي الحدث من داخل المعتقلات التي تنقل بينها بدءاً في دمشق وانتهاءً في سجن حلب المركزي، من خلاله نكتشف الدور العظيم للأم وهي تتابع قضيته مع المحامي وتزوره في السجن، كذلك يسهم نورس في ترسيخ الرؤية الفكرية للرواية من خلال البعد الإنساني الذي يطرحه.
أما باقي الشخصيات المنضوية تحت علم الثورة فتبرز الوجه المشرق لشعب قرر أن ينال حريته، هذا الوجه الذي لا يمكن وصفه بغير كلمة (سوري) حيث نجد في مجموعة العمل الإغاثي شخصيات تمثل معظم الطوائف السورية جمعهم نداء الحرية وعزز صداقتهم العمل على تأمين الكساء والغذاء والدواء لضحايا القمع الأسدي.
في الجانب الآخر تتحرك عدة شخصيات مختلفة الدوافع والأسباب لكنها تتفق جميعاً في محاربة كل من ثار على المستبد حرباً لا هوادة فيها مستخدمة أبشع صور القتل والإجرام وأبشع أنواع الانحطاط الأخلاقي بعضها دفاعاً عن مكاسبه وطمعاً بالمزيد وبعضها ناجم عن إيمان عميق أوجدته تربية خاصة تخلو من أي وجود لأي وازع أخلاقي أو ديني أو فكري إنها شخصيات تمثل أدنى مستويات الوضاعة التي عرفتها البشرية، لذلك كان من البدهي أن تحارب نقيضها بلا هوادة. وسأتوقف عند شخصيتين اثنتين منهما:
ست الحسن :
شخصية معقدة منحتها الكاتبة كثافة سيكولوجية خاصة بحيث عادت بها إلى مرحلة ولادتها لأم هربت مع عشيقها وأمضت عمرها تعمل في خدمة البيوت في ظل غياب زوجها الدائم أما الأب الحقيقي لهذه الطفلة فهو من يفترض أن يكون عمها. فنحن أمام طفلة نشأت بداية في أسرة منحلة أخلاقياً ونتيجة غياب الأب وتحت ضغط الحاجة المادية فقد كانت الصغيرة تتدبر أمورها بطرق خاصة كأن تحصل على حذاء أو ثوب من بائع بعد أن تسمح له ببعض الاستمتاع بها وقد يحدث كثيراً أن يستمتع بها بائع ما ثم يطردها بلا أي مقابل، وعندما نضج جسدها بدأت تفكر بالانتقام من المجتمع كله ومن الرجال على وجه الخصوص فأنشأت علاقات مميزة مع رجال الأمن والمسؤولين وبدأت رحلة الإثراء ومع بداية الثورة نجدها في معمل السكر في جسر الشغور مع الضابط المسؤول عن قمع المتظاهرين، حيث تم اقتياد عدد من الفتيات إلى داخل المعمل وهناك تنتقم منهن على طريقتها الخاصة، كذلك نراها على شاشة التلفزيون السوري مع اثنتين من فصيلتها وقد تحجبن وبدأن بفبركة قصص الاغتصاب المزعومة لتشويه وجه الثوار. ست الحسن نموذج للمرأة السادية التي استعان بها المستبد كإحدى أدواته في قمع الثورة، وتزداد شراستها كلما اصطدمت بالنموذج المعاكس الذي يذكرها بوضاعة أصلها، فإحدى المعتقلات في معمل السكر عندما أحست أن هذه المرأة ستتلذذ بإهانتها وهتك عرضها وقفت وبصقت في وجهها ثم رمت بنفسها في المرجل الذي يغلي فيه ماء السكر.
 (عبد السلام) الملقب بالخضر:
عندما كان يأخذ بعضاً من صيد رفاقه ويعود إلى البيت كانت جدته تقول له (شاطر يا ولد، لم يخب ظني فيك، أنت أمهر من فرقاطة)[7] والفرقاطة اسم لطائر يطير فوق الماء بسرعة ولا يجيد الغوص أو التعامل مع الماء يعرف بـ"قرصان الهواء" لبراعته في خطف الفرائس التي تصطادها الطيور الأخرى.
وتمثل هذه الشخصية إحدى أقذر أدوات المستبد في قمع الثورة، إذ يؤمن عبد السلام إيماناً كلياً بأن الموت في سبيل الرئيس هو الغاية الأسمى في الوجود، حتى أنه يعنف نفسه كثيراً عندما توسوس له ولو بمجرد خاطر بغير ذلك، وبحكم تربيته المنعزلة في منطقة جبلية، وعدم تلقيه أي تعليم نراه يمتلك قدرات جسدية مميزة واندفاعاً غرائزياً غير مقيد بأي وازع على الإطلاق، لقد أسهمت هذه التربية الخاصة إضافة لما تلقاه من تعاليم أثناء خدمته العسكرية في تكوين عقيدة خاصة. تجعله يستبسل في القتال دفاعاً عنها وفي الوقت ذاته يستغرب لماذا رمت يمامة نفسها على منحدر صخري قاتل لحظة محاولته اغتصابها، لقد خلقت منه هذه العقيدة وحشاً لا يعرف غير القتل واللواطة ولا يتردد مطلقاً بقتل طفل ثم التمتع بمؤخرته. يشترك في هذه العقيدة مع شخصية أخرى (الملازم خضر) الذي تم تكليفه بنقل البنات المعتقلات إلى معمل السكر في جسر الشغور حيث يصل الأمر عند هذا الملازم حداً جنونياً في القتل والاغتصاب لدرجة أن وقع أسير شهوة القتل فبدأ يطلق النار حتى على رفاقه الأمر الذي أدى إلى مقتله، ذلك بعد أن كان قد أوقف سيارة على الطريق العام فيها شاب وفتاة فأردى الشاب بطلقة ثم التفت إلى الفتاة فمزق ثيابها وذبحها ثم اغتصب الجثة وأكمل جنونه بأن أمسك سكيناً وبدأ يرسم بها خطوطاً على جسد الفتاة. إنه شكل من أشكال الاستذءاب الذي لم يره من قبل علماء النفس وإلا ما كانوا اقتصروه على المضطربين عقلياً، إنه خلل جيني يعيد الإنسان ـ عبر تربية محددة ـ إلى حالة ذئبية خاصة.
إذاً نحن أمام رواية تسعى جاهدة لتفكيك وتحليل هذه الرغبات الجامحة وغير المسبوقة في القتل والاغتصاب وقهر الإنسان من خلال تسليط الضوء على سلوك الشخصية تارة وعلى كثافتها السيكولوجية تارة أخرى، وبذلك تشكل هذه الرواية خطوة أولى في مقاربة هذه البنية الاجتماعية المغلقة بغية كشفها بشكل واضح خاصة بعد أن كشرت عن أنيابها بصورة قاتلة إنها بنية الاستبداد والشرائح الاجتماعية المنتفعة منه والتي تشكل له حاضنة اجتماعية تطيل من أمده على حساب دماء بريئة.
----------------------------------------------------
"مدن اليمام " رواية للكاتبة إبتسام تريسي
مكتبة الدار العربية للكتاب ـ القاهرة ـ ط1 ـ 2014
=================================  ============
·        مجلة أوراق الصادرة عن رابطة الكتاب السوريين العدد الخامس.


[1] ـ صـ 213 حسن بحراوي  ـ بنية الشكل الروائي ـ المركز الثقافي العربي 2009
[2] ـ صـ 221 نفسه
[3] ـ صـ 321 نفسه
[4] ـ صـ 223 نفسه
[5] ـ  مدن اليمام إبتسام تريسي صـ 297
[6] ـ مدن اليمام إبتسام تريسي صـ 7
[7] ـ مدن اليمام إبتسام تريسي صـ 34

السبت، 1 يونيو 2019

بانوراما التجريف في ظلال عورة الحاكم.


بانوراما التجريف في ظلال عورة الحاكم
بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد طفت على سطح الإعلام العربي عبارة رددها الكثيرون مفادها أن لا حرباً بلا مصر ولا سلاماً من دون سوريا، حسناً لقد فعلت العبارة فعلها في اللاشعور الجمعي العربي فقد وطنت اليأس بشكل قاطع في نفوس أعداء (إسرائيل) فمصر خرجت من المعادلة وسوريا غير قادرة لوحدها على الحرب. لم يكن المحللون السياسيون في تلك المرحلة على دراية مطلقاً بهوية الأنظمة العربية والجيوش العربية المصنعة أساساً وفقط لقمع الشعوب العربية كما سيتضح لاحقاً، في واقع الأمر ليس فقط المحللون السياسيون وأيضاً غالبية العامة والمثقفون من الناس لم يكونوا على دراية بهذا الأمر. وأما القلة القليلة من أصحاب البصيرة فقد كان يُنظر إلى تحليلاتهم على أنها تخاريف غيبية.
حسناً. إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الحروب في المنطقة برمتها تنحصر بين إسرائيل وبين العرب على هامش القضية الفلسطينية التي تاجر بها كل الحكام العرب. فإننا نستطيع القول أن إسرائيل بجبهة وبقية العرب في الجبهة المقابلة، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أيضاً أن إسرائيل قد استطاعت تدجين الأنظمة العربية إن لم نقل صناعتها بالكامل فهذا يعني أن أعداء إسرائيل هم الشعوب حصراً، وفي واقع الأمر لم تخش إسرائيل الجيوش العربية مطلقاً، وكل خوفها كان من هذه الشعوب ، وعلمياً الشعوب كتل عمياء لاتخضع حركاتها لمنطق رياضي يمكن التكهن به ولذلك لا يمكن ضبطها إلا بنظم دكتاتورية صارمة ولفترات زمنية محدودة وإن طالت في بعض الأحيان، وعندما نقول صارمة فهذا يعني تحويل أجزاء كبيرة من هذه الكتلة إلى أدوات تسهم مساهمة فعالة في عرقلة الحركة العامة للكتلة بحيث تبقى في دائرة الإذلال أطول فترة ممكنة، لكن في نهاية المطاف سيشكل تحرك هذه الكتلة خلخلة عظيمة لبنية النظام الدكتاتوري وستسقطه بكل تأكيد.
في هذه الحالة ما الذي يمكن أن تصنعه (إسرائيل) قائدة الجبهة الثانية وهي على قناعة تامة بضرورة تفكيك عدوها الأساسي. ستجيب دوائرها الاستخباراتية عن هذا السؤال الجوهري. كيف يمكن لنا أن نفتت شعباً كاملاً؟ لقد سبق وأن كانت تجربتهم مع الشعب الفلسطيني سنة 1948 تجربة ناجحة ساعدهم في ذلك حكومات العالم والأنظمة العربية قاطبة، إن لم يكن بشكل مباشر فبأشكال مختلفة، وساعدهم على ذلك أيضاً ضعف الدول العربية وانتشار الجهل فيها. فإذاً أمام انتفاضة الشعب السوري في 2011 كانت إسرائيل أمام لحظتها التاريخية المنتظرة ساعدها المدعو أوباما رئيس الولايات المتحدة الأمريكية  وقائد حركة ( أصدقاء سوريا ) بتصنيع حالة الحرب الدائمة وإبقاء الوضع في إطار اللامنتصر  ومنذ بداية الحل العسكري التي قادها بداية بشار الأسد  بدأت تظهر ملامح التجريف البشري بغية تحويل الأكثرية إلى طائفة بداية في ريف درعا والآن في إدلب مروراً بكل المناطق التي ركبت الباصات الخضر باتجاه الشمال ، وكانت الفصائل الإسلامية والدول العربية الداعمة لها خير عون وسند لبشار في تنفيذ هذا المخطط، فتحت الأردن ولبنان وتركيا والعراق بشقيها العربي والكردي الحدود واستقبلوا المهجرين قسراً بفعل الصواريخ والبراميل المتفجرة ونيران الميليشيات الإيرانية، وفي المقابل تم على الأرض اختزال الثورة بكلمة المعارضة واختزال الثوار بمصطلح المجاهدين حيث تم تهميش كل صاحب فكر وموقف نظيفين وإفساح المجال لكل إمعة أن يقود فصيلاً أو حركة، واستطاعت المنظمات الإغاثية ربط المواطن البسيط بسلة الإغاثة كي يسهل عليه التخلي عن أرضه في ظل انعدام الأمن والأمان على مستوى الجسد وعلى مستوى الغذاء. وتحول الصراع من صراع شعب مع نظام دكتاتوري إلى صراع دول تتقاسم الكعكة السورية فتركيا تريد حزاماً عربياً يفصلها عن الأكراد وإيران في مناطق سيطرتها تريد حزاماً شيعياً يفصلها عن السنة وروسيا تريد لقواعدها وشركاتها حزاماً أسدياً يفصلها عن السنة أيضاً وأضحت الأكثرية طائفة مثلها مثل بقية الطوائف بعد تهجير ما يقرب من نصف السكان تماماً وقتل أكثر من مليون إنسان وتدمير أكثر من 60 بالمئة من منازلهم.
المعارك الجارية اليوم في أرياف الشمال لا يمكن بحال من الأحوال تسميتها معارك فالمعركة تقتضي وجود قوتين متصارعتين أما على أرض الواقع فالقوتين هما طائرات روسيا والأسد من جهة والشعب الأعزل في البيوت من جهة ثانية وقد بدأت بسياسة الأرض المحروقة التي تشتهر فيها روسيا مبتدئة بالقرى القريبة والمدن بغية تهجير بقية الناس منها وقد تجاوزت طلعات الطيران فيها خلال شهر ونصف إلى ما يزيد عن ستة آلاف طلعة طالت خان شيخون والمعرة وسراقب وأريحا وقراهم، أما الجهة الوحيدة المحتملة للنزوح فلم يتبق غير مناطق اعزاز وعفرين وبقية المناطق الخاضعة للسيطرة التركية وذلك بعد طرد الكرد منها والاستيلاء على أرزاقهم.
بذلك يكون الشعب السوري قد لحق بأخيه العراقي في عملية التفكيك والوصول بهاتين الدولتين (سوريا والعراق) إلى مصاف الدول الفاشلة.
أمام هذا الوضع المؤامراتي ستجد من سيتنطع ويتهم هذه السطور بالوقوع في فخ نظرية المؤامرة مؤمناً تماماً أن الإمبراطور يرتدي ثياباً غاية في الجمال مكذباً عينيه التي تتمعن وتطيل النظر إلى عورته المفضوحة، مندهشاً في سره من طول خازوق سيده، وسيرسم أسفل البسطار سماء زرقاء وأشجاراً وأنهاراً، وينام مطمئناً تحت سقفه هذا مستمتعاً بتجانسه وذله وخنوعه. في الوقت الذي يضع فيه الإسرائيلي ساقاً على ساق مستمتعاً بإنجازه العظيم فقد استطاع أن يصنع شعباً متجانساً غير قادر على الفعل لمئة عام قادمة حيث تنتظره موجة عنف جديدة.
أما اليوم وفي ظل هذا الهولوكست الجاري في سوريا فأعتقد أن أي صورة حل لن تكون إلا بعد أن تصل أعداد المجنسين الجدد في سوريا نسبة وازنة عندئذ ستتدخل الأمم المتحدة وتوقف القتل وتُجري انتخابات نزيهة يفوز بها بشار الأسد لولاية جديدة.... عند هذه النقطة بالذات سيكون عدد شهداء سوريا قد اقترب من 2 مليون قتيل. و1مليون مفقود. و15 مليون مهجر حيث في هذه اللحظة فقط يخلو لكم وجه أبيكم وتنعم روسيا وحليفها بإعادة الإعمار.
عبد الرحمن حلاق
رابط المقال على موقع حرية برس :
https://horrya.net/archives/106390?fbclid=IwAR3LfgSD4GiIbgIzrJRLyerjgdHywxjvmdTvg85E2-QFqTKabPmC69tNEa0

الاستعارة والانحرافات المعرفية ـ قراءة في رواية فواز حداد تفسير اللاشيء

  في السرد الروائي نجد أنفسنا أمام مجموعة من الصور الكلية التي تصنع استعارات بلاغية مختلفة في الشكل عن المفهوم البلاغي المتعارف عليه في ك...